شعار قسم مدونات

الشعر الفارسي في عصر الشبكات: من "الشاهنامة" لفردوسي إلى غزليات الرومي

مجلة "أوروب" الباريسية تحتفي بالأدب الإيراني
مجلة "أوروب" الباريسية تحتفي بالأدب الإيراني (الجزيرة)

في ليلةٍ مقمرةٍ بمدينة شيراز، قبل ألف عام، جلس الشاعر حافظ تحت شجرة تفاح، ينظم أبياتًا تتراقص بين الروح والكون، وكأن كلماته أجنحة فراشات تحلّق في حدائق الخيال! كان يقول: "أنا المدينة التي أحبها، وأنا العاشق الذي يحترق فيها.".. لم يكن يعلم حينها أن أبياته ستعبر الزمن، لتجد نفسها يومًا ما على شاشات متوهجة، تُغرد عبر شبكاتٍ رقمية تربط العالم من شيراز إلى طوكيو، ومن بغداد إلى باريس.

بعد استكشاف المحتوى الواعي كأداة تحرير ثقافي، ننظر الآن إلى الشعر الفارسي كجسرٍ رقمي يُعيد إحياء التراث بأنفاس العصر، مُواصلًا مسار القيم والإبداع عبر السلسلة. هنا يبرز السؤال: كيف يمكن للشعر الفارسي أن يتجدد في الفضاء الرقمي، ليُصبح صوتًا عالميًّا يُحاكي أرواحنا؟

في عصور الازدهار الفارسي، كان الشعر يُنقل عبر المخطوطات اليدوية في العصر الصفوي (1501-1736)، حيث كان الكتبة يجلسون في ضوء الشموع، يزخرفون الصفحات بحبرٍ أسود وخطوطٍ ذهبية

حكاية تاريخية: الشعر كجسر للأرواح

التراث الشعري الفارسي، من "الشاهنامة" لفردوسي إلى غزليات جلال الدين الرومي وسعدي وحافظ، لم يكن مجرد كلماتٍ منمقة، بل كان لغةً للروح، خريطةً للجمال والمعاناة الإنسانيّة.

في عصور الازدهار الفارسي، كان الشعر يُنقل عبر المخطوطات اليدوية في العصر الصفوي (1501-1736)، حيث كان الكتبة يجلسون في ضوء الشموع، يزخرفون الصفحات بحبرٍ أسود وخطوطٍ ذهبية تلمع كأنها أشعة شمسٍ محبوسة في الورق.

إعلان

كل مخطوطة كانت تحفةً فنية، تُحمل بعناية في قوافل تجوب طريق الحرير، من سمرقند إلى دمشق، لتصل إلى أيدي الأمراء والعلماء الذين يتدارسونها في مجالس العلم والأدب.

مع حلول القرن التاسع عشر، تغير المشهد: أولى المطابع وصلت إلى إيران، مستوحاة من التقنيات الأوروبية، فتحولت تلك المخطوطات إلى كتبٍ مطبوعة تحمل رائحة الحبر الطازج، وأصبحت متاحة لطبقاتٍ أوسع من القراء. كان ذلك بمثابة ثورة صغيرة، حيث انتقل الشعر من الأرفف الملكية إلى بيوت التجار والمثقفين، يُقرأ على ضوء المصابيح الزيتية في ليالي الشتاء الباردة.

واليوم، في عصر الشبكات، يعيش الشعر الفارسي حياةً جديدة: مشروع "ديوان حافظ الرقمي"، التابع لجامعة هارفارد، يحول تلك المخطوطات النادرة إلى نصوص تفاعلية، حيث يمكن للقارئ أن ينقر على كلمة مثل "ميخانه" (حانة الخمر الصوفية) ليظهر شرحٌ يربطها بالرمزية الروحية، كأن حافظ نفسه يهمس بتفسيراته عبر الزمن.

هكذا، تتجدد الأبيات على منصات مثل إكس، تُعاد صياغتها في صور رقمية، وتُحلل بخوارزميات ترصد الإيقاع والمعنى، وكأن الشعر الفارسي يتنفس هواء العصر الجديد.

تحليل عميق: الجماليات والرمزية في عصر جديد

الجماليات الفارسية تكمن في قدرتها على الجمع بين التجريد والواقع. خذ مثلًا رمز "البلبل والوردة"… البلبل يغني للحب حتى ينزف، والوردة تظل صامتة في كمالها.

في العالم الرقمي، في هذا السياق يقول جلال الدين الرومي: "ما تبحث عنه يبحث عنك"، مُبرزًا أن الشعر، حتى في صورته الرقمية، يظل جسرًا يربط الأرواح عبر الزمن والفضاء. لكن السؤال يبقى: أتفقد الرمزية عمقها عندما تُختصر في 280 حرفًا، أم إنها تتكيف كما تكيفت المخطوطات مع الطباعة يومًا ما؟ مبادرة "غزل بوت" (GhazalBot) الإيرانية تُظهر العكس: ذكاء اصطناعي يؤلف غزليات مستوحاة من بحور الخليل وأسلوب سعدي، يتفاعل معه 500 ألف مستخدم شهريًّا، كدليل على جاذبية التراث المتجدد.

إعلان

التحليل يكشف عن تحولٍ في الإيقاع أيضًا؛ الشعر الفارسي التقليدي يعتمد على العروض، نظامٌ موسيقي دقيق. اليوم، نرى شعراء رقميين يبدعون بأساليب جديدة: قصائد مرئية (visual poetry) تجمع النصوص بالصور، أو "غزليات ميكرو" تُكتب بلغة تويترية، تحتفظ بالإيجاز لكنها تحمل صدى الماضي. هذا التكامل بين التراث والتكنولوجيا يعكس ما بدأناه في "الدين الرقمي" -حيث تتجلى القيم الروحية في أدوات العصر- ويتوازى مع "شرقي آسيا" بفكرة الانسجام بين القديم والحديث.

مع ذلك، تواجه "الفارسية الرقمية" تحديات… النقاد يرون أن التكنولوجيا تُسطح الشعر: قصيدة "مثنوي" للرومي، التي تتطلب تأملًا، تُختصر إلى "إنفوجرافيك" سريع. دراسة بجامعة طهران (2023) تكشف أن 60% من الشباب يقرؤون الشعر عبر "الاستوريات" دون العودة للنص الأصلي، ما يثير تساؤلات عن فقدان العمق مقابل الانتشار.

"غزل بوت" ليس مجرد أداة، بل هو دليلٌ على أن الثقافة المحلية، عندما تُقرن بالتكنولوجيا، تُصبح صوتًا عالميًّا يُعانق القلوب عبر الحدود

دراسة حالة "غزل بوت": الشعر الفارسي يُحلق رقميًّا

في قلب طهران المعاصرة، ولدت فكرة "غزل بوت" (GhazalBot) كنجمةٍ رقمية تُضيء سماء الشعر الفارسي. بدأت كمشروعٍ طموح عام 2022، حيث جمع فريقٌ من المبرمجين والشعراء المعاصرين جهودهم لخلق ذكاء اصطناعي يُحاكي بحور الخليل وأنفاس سعدي وحافظ، ليؤلف غزلياتٍ جديدة تُعانق أرواح العاشقين في العصر الرقمي. لم تكن مجرد أداةٍ تقنية، بل كانت جسرًا يربط بين ماضٍ ينبض بالجمال وحاضرٍ يتسارع بضربات الشاشات.

بحلول 2023، كان "غزل بوت" يتفاعل مع 500 ألف مستخدم شهريًّا، وفق إحصاءات المشروع، مُحققًا أكثر من مليوني زيارة لأبياته على منصات مثل X وإنستغرام، حيث يُشارك 70% من المستخدمين الإيرانيين تحت سن 35، بينما يأتي 20% من جمهورٍ عالمي يبحث عن الشعر الفارسي بلغاتٍ متعددة.

النجاح لم يكن صدفة: فقد صُمم "غزل بوت" ليستلهم أكثر من 10 آلاف بيتٍ شعري من التراث، مُولدًا أبياتًا جديدة تحمل 85% من الإيقاعات التقليدية مع لمسةٍ عصرية تُناسب إيجاز التغريدات.

إعلان

لكنه لم يخلُ من التحدي: دراسة بجامعة طهران (2023) كشفت أن 60% من الشباب يفضلون قراءة هذه الأبيات عبر "الاستوريات"، دون العودة إلى النصوص الأصلية التي تُشكل أساس الإلهام، ما يُظهر كيف يُحلق الشعر الفارسي رقميًّا، لكنه يُواجه مخاطر التسطيح.

"غزل بوت" ليس مجرد أداة، بل هو دليلٌ على أن الثقافة المحلية، عندما تُقرن بالتكنولوجيا، تُصبح صوتًا عالميًّا يُعانق القلوب عبر الحدود.

أفكار عملية مُبدعة: إحياء الشعر الفارسي رقميًّا

تخيّل للحظة أنك تفتح هاتفك لتجد تطبيقًا يُدعى "ديوان العصر"، يهمس لك بأبياتٍ رقيقة تتراقص على إيقاعات العروض الفارسية المستوحاة من حافظ، ثم يدعوك لمشاركتها كصورٍ متلألئة أو مقاطع صوتية تُعانق الأثير. بعدها، تنتقل إلى عالمٍ افتراضي في الميتافيرس، حيث تتجول في شوارع شيراز ونيشابور المُعاد خلقها بتفاصيل مبهرة، تجلس في أمسياتٍ شعرية مع شخصياتٍ كالرومي وحافظ تُحييها تقنية الذكاء الاصطناعي، وتمتلك قصائد نادرة كتحفٍ رقمية عبر تقنية NFTs، ثم تُغامر في لعبة "طريق الحرير الشعري"، تجوب فيها بغداد وسمرقند لتجمع أبياتًا متناثرة كاللآلئ، بتعاونٍ مع متحف اللوفر الذي يفتح خزائنه لمخطوطاتٍ تاريخية تُضيء الشاشة.

الشعر هنا جسرٌ بين الفرد والمجتمع، والماضي والمستقبل، يُثبت أن الثقافة المحلية هي البذرة التي تُزهر بأدوات العصر. لكن القصة لم تنتهِ، فهناك أصواتٌ بطولية وروحانية تنتظر أن تُحلق من تراثنا

وفي لحظة تأمل، تُطلق منصة "الديوان الحي" عروضًا بصرية ثلاثية الأبعاد بتقنية الواقع المعزز، فترى أبيات حافظ تتساقط كثلجٍ افتراضي يغمر عالمك. تتخيل بعدها هاكاثونًا يضم مبرمجين وشعراء يتنافسون لابتكار تطبيقٍ يلتقط نبضات قلبك عبر مستشعرات ذكية متصلة بهاتفك، ليُحولها إلى إيقاعات غزلية تعكس توق العاشق على طريقة سعدي، ثم تُشاركها كلحنٍ رقمي يعانق القلوب.

وفي رحلةٍ أعمق، تُطلق دراسة تحلل تغريدات #الشعر_الفارسي؛ لتكشف الخيوط الخفية (الحب، الثورة، الغربة) وتقارنها بأصداء التراث، كأنها مرآة تعكس تحولات الهوية.

تتجول أيضًا في معارض شعرية افتراضية حيث تُعرض مخطوطات رقمية في فضاءات ثلاثية الأبعاد بتقنية الواقع المعزز، وتتردد أصوات التلاوة كصدىً بين "الأنا" و"الآخر".

إعلان

وأخيرًا، تُطلق أداة ذكاء اصطناعي ترصد الرموز في قصائد اليوم، تقارنها بتراث حافظ والرومي، لتُلهم شعراء جُددًا ينسجون الماضي بخيوط الحاضر، كأن الشعر الفارسي يُعانق العالم بأنفاسٍ متجددة.

كما ناقشنا في "الدين الرقمي" كيف تُعاد صياغة الطقوس عبر التطبيقات، و"شرقي آسيا" حيث تُحيا فنون الزن بالتكنولوجيا، فإن "الفارسية الرقمية" تُظهر أن التكنولوجيا ليست نقيضًا للثقافة المحلية، بل حاملًا جديدًا لجوهرها، نقطة إلهامٍ تنطلق من أصالتها لتُعانق العالم.

الشعر هنا جسرٌ بين الفرد والمجتمع، والماضي والمستقبل، يُثبت أن الثقافة المحلية هي البذرة التي تُزهر بأدوات العصر. لكن القصة لم تنتهِ، فهناك أصواتٌ بطولية وروحانية تنتظر أن تُحلق من تراثنا، في مغامرةٍ تُعانق الأثير الرقمي بأجنحة الإبداع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان