شعار قسم مدونات

أن تمشي على جراحك.. من غزة نتعلم الصبر

- الى 12: عام -الاحتلال يستهدف المرافق الصحية بشكل ممنهج، مما يزيد من معاناة المدنيين ويهدد المنظومة الطبية في غزة -الاحتلال دمر المستشفيات بهدف إخراج المنظومة الصحية عن الخدمة لدفع الناس نحو الهجرة -الطواقم الطبية تعمل تحت ضغط هائل، يتطلب منها اتخاذ قرارات طبية حاسمة لإنقاذ حياة المصابين -العدد الكبير من الجرحى يدفع الأطباء الجدد والطلاب إلى تحمل مسؤوليات طبية كبيرة رغم نقص الخبرة -الدمار في المرافق الصحية يقيد قدرة الأطباء على تقديم العلاج اللازم، مما يزيد من التحديات التي تواجههم
الكاتب: في كل حرب تشن على غزة لا تقصف البيوت فقط بل تقصف الذاكرة ويستهدف المعنى (الجزيرة)

في غزة، لا يملك الإنسان رفاهية التوقف عند كل جرح. هناك، يصبح الصبر فعلًا غريزيًّا، تمارسه دون أن تدرك، كما يتنفس القلب دون أن يستأذن.

في تلك البقعة المحاصرة، بين دخان الحروب وصمت العالم، ينهض الناس كل يوم على أنقاض البارحة، لا لأنهم نسوا، بل لأنهم لم يُمنحوا وقتًا للحزن. وبين رائحة الغبار الممزوجة بالملح، وحكايات البيوت التي صارت أطلالًا، تنمو الحياة، رغمًا عن كل شيء.

الغزيون لا يعلقون الصبر على جدران الانتظار، بل يحفرونه في وجوههم التي لم يعد الزمن يرسمها، بل تُرسم بالخوف والحب في آن واحد

الصبر كنجاة يومية لا كفضيلة موعودة

الصبر في غزة لا يقاس بعدد الأيام التي تمر، بل بعدد المرات التي نجا فيها المرء من الموت دون أن يفقد ملامحه الإنسانية. هناك، لا ينتظر الناس فرجًا غيبيًّا، بل يصنعون معنى الصبر بأنفسهم، في كل طابور خبز، وفي كل نظرة أم نحو طفلها الجائع، وفي كل رائحة بحر تحاول أن تنسيهم أن اليابسة من خلفهم باتت سجنًا كبيرًا.

الغزيون لا يعلقون الصبر على جدران الانتظار، بل يحفرونه في وجوههم التي لم يعد الزمن يرسمها، بل تُرسم بالرصاص والخوف والحب في آن واحد.

المقاومة بوصفها شكلًا من أشكال الحياة اليومية

في غزة، المقاومة ليست خيارًا سياسيًّا يُتداول في الاجتماعات المغلقة، بل طريقة عيش.. أن تستيقظ صباحًا وتقرر أن تفتح نافذتك نحو الضوء هو فعل مقاومة، أن تشعل شمعةً في عتمة الحصار، أن تقرأ كتابًا في زمن الاجتياح، أن تربي زهرةً في تربة مهددة بالاقتلاع، تلك كلها ليست أفعالًا عادية، بل رفضًا ناعمًا، عنيدًا، متكررًا. هنا، حتى الحياة اليومية تصبح مشهدًا بطوليًّا؛ لا تحتاج إلى بندقية كي تقاوم، بل إلى قلب يعرف كيف يظل نابضًا رغم كل ما حوله.

صورة واحدة من غزة قد تهزم ألف رواية مزيفة، عدسة الشاب الغزي لم تعد ترى فقط ما يعرض، بل تكشف ما يخفى، وتصوغ المأساة بلغة لا تخضع للمحرر ولا تقوم بالمصالح

الهوية كجدار لا يهدم

في كل حرب تشن على غزة، لا تقصف البيوت فقط، بل تقصف الذاكرة، ويستهدف المعنى. لكن ما لا يفهمه العدو أن الفلسطيني لا يسكن جدران منزله فقط، بل يسكن اسمه، وتاريخه، ورائحة التراب التي علقها في قلبه منذ الطفولة.

إعلان

تهدم البنايات، نعم، لكن لا أحد يستطيع هدم الحنين!. الهوية هنا ليست ورقةً تصادر أو خريطةً تعدل، بل هي جدار داخلي يستعصي على الانهيار. إنها القصيدة التي تُتلى في الغياب، والصورة التي لا تحترق في الألبوم، واللغة التي تنمو رغم شظايا الصمت.

العدسة التي أخرجت غزة من الحصار الرمزي

كانت الكاميرا دومًا أداة نقل، لكنها في غزة تحولت إلى أداة مقاومة، ليس فقط لأنها ترصد الدمار وتوثق الانتهاكات، بل لأنها تعيد تشكيل الوعي.

صورة واحدة من غزة قد تهزم ألف رواية مزيفة، عدسة الشاب الغزي لم تعد ترى فقط ما يعرض، بل تكشف ما يخفى، وتصوغ المأساة بلغة لا تخضع للمحرر ولا تقوم بالمصالح.

صارت الكاميرا ضميرًا ناطقًا، تصرخ بما لا تجيد السياسة قوله، وتمنح الحياة لأولئك الذين أريد لهم أن يُمحَوا من السردية. وهكذا، لم تعد غزة محاصرةً إلا في الجغرافيا، أما في الوعي فقد فتحت الصور نوافذها على العالم، بل أوقظت الضمائر التي ظن أصحابها أنها في سبات أبدي.

غزة ليست مجرد مدينة على الخريطة، بل هي مرآة للضمير الإنساني حين يُختبر، ومحك للحقيقة حين تشوَّه. من تحت الركام، تخرج الحكايات لا لتثير الشفقة، بل لتعلم العالم معنى أن تكون حيًّا رغم كل ما يريده لك الموت

الطفل الذي صار أيقونة

في خضم الركام، بين الأنقاض والغبار، لم يكن الطفل الغزي مجرد ضحية، بل كان مرآةً تعكس بشاعة العالم وصمته. لم يحتج إلى بيان سياسي، ولا إلى منصة عالمية؛ نظرة عينيه وحدها كانت كفيلةً بإدانة قرن كامل من الخذلان.. صار الطفل، الذي يودع أمه تحت النيران، أو يحتضن كف أبيه المتيبسة، رمزًا لبراءة تذبح كل يوم على مائدة التواطؤ العالمي.

لكن المفارقة أن هذا الطفل لم يعد فقط رمزًا للحزن، بل للكبرياء؛ يقف في وجه الدبابة، ويبتسم للعدسة كأن الموت لا يرعبه بل يحفزه على الاستمرار.

هو أيقونة الصمود، ليس لأنه لا يخاف، بل لأنه يكمل طريقه رغم الخوف. وفي عالم يغمره الزيف، صار الطفل الغزي أكثر صدقًا من كل الخطب، وأكثر تأثيرًا من كل مؤتمرات القمم الباردة.

أن تمشي على جراحك لا يعني أن تنكر الألم، بل أن ترفض أن يكون نهاية الحكاية

غزة ليست مجرد مدينة على الخريطة، بل هي مرآة للضمير الإنساني حين يُختبر، ومحك للحقيقة حين تشوَّه. من تحت الركام، تخرج الحكايات لا لتثير الشفقة، بل لتعلم العالم معنى أن تكون حيًّا رغم كل ما يريده لك الموت.

إعلان

من بين أنقاض الصمت العربي والعالمي، تنهض غزة شاهقةً، لا بجدرانها، بل بأرواح أهلها، بأطفالها الذين يحفظون الوطن على أطراف أحلامهم، وبكاميراتها التي توثق الوجع لا لتبكي، بل لتشهد.

أن تمشي على جراحك لا يعني أن تنكر الألم، بل أن ترفض أن يكون نهاية الحكاية. وغزة، في كل شهقة حياة تنتزع من بين أنياب الموت، تقول لنا: لستم بحاجة إلى معجزات كي تقاوموا، بل إلى قلوب تعرف كيف تحب رغم الخراب، وتنهض رغم الفقد، وتصرخ في وجه الظلم: "ما زلنا هنا، وما زلنا نحلم".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان