في مراحل الضعف يتمسك الطرف الأضعف في المعادلة السياسية بورقة مهترئة تسمى "اتفاقًا"، تُطوى تارة وتُسحق مرات كثيرة، وعلى أثرها لا يوجد التزام إلا من طرف واحد فقط مغبون في وضعه، مسجون بين آهاته، ومسحوق دون حقوقه الإنسانية.. فتلك الورقة تشبه ورقة التوت في سياقها اللفظي؛ ليس إلا!
إن كانت "ورقة التوت" في سياقها التاريخي رمزًا للعفة بحسب ما ورد في الأثر، من ستر العورة في قصة الخلق عندما عرّته الخطيئة إلى ندامة الفعل وغرور الخلود، فإنها في سياقها السياسي ما هي إلا خديعة كبرى تبعثر واقعنا المثقل بأزمات البحث عن حلم الانتصار، وتجعلنا نتساقط فوضى دونما قرار.
فمن بين ستار القراءة الجيوسياسية لمشهد غزة الراهن، تتوارى ورقة التوت من التستر إلى التعرية، حتى مع محاولات التلوين التي لم تتقنها الأنظمة "المتوارثة" عندما رسموا الاتفاق خيال ظل وظنوا بأنه غصن زيتون، وطوق نجاة لصرخة شعب ليس بينه وبين الشهادة إلا الموت.
جميع الأوراق تتساقط، فلا تظهر لها براعم، والمشهد السياسي يعيش عقمًا في الجذور وجدبًا في التربة تتقاطع حوله الفصول؛ فمهما كان الحديث حول تقديم ضمانات لإنهاء الحرب على الفلسطينيين، فما ذلك إلا ابتزاز جديد
عُري فاضح
ما يحدث هو عُري فاضح لحالة الذل التي تقودها التبعية العمياء، وتزدوج فيها المواقف، وتتقاطع حولها المصالح؛ فيبدو جرح غزة نازفًا في جسد الأمة، وشاهدًا على سقوط ورقة التوت عن الجميع دون استثناء.. لا ولم تستثنِ أحدًا، من المجتمع الدولي إلى الأنظمة العربية، وليس انتهاءً بالإنسان العربي الذي يعيش حالة اغتراب داخلي في وطنه.
لو كان حديثًا مرسلًا يُنثر في فضاءات الزيف، لربما قلنا تلك أسطورة أو حديث "خُرافة"، لكن عندما يكون نبأً يقينًا رأيناه قبل أن يرتد إلينا طرفنا، فذلك هو الواقع الذي يسجل تاريخ سقوط الورقة، عبر تواطؤ مقنّع وتبرير ممنهج ووساطة زائفة، بخطابات معلبة مستهلكة ورخيصة، تسقط أقنعة الحياد الكاذبة.
أسئلة بريئة
ولو وضعنا سؤال ذلك الطفل البريء الذي أفاق بهذيانه منذ أعوام؛ عندما شاهد عروضًا عسكرية "وطبولًا" توقظ وطنية الأنظمة: أين جيوشنا الجرارة أمام مدينة تحترق، وشعب يباد ويهجّر، وأطفال يُنتشلون من بين الركام؟ لاعتبرنا ذلك المشهد مشهدًا تمثيليًّا بامتياز.
فالبراءة ألهمت الطفل طرح الأسئلة، وإسقاطها على الواقع الذي يُغذَى به نظريًّا ليل نهار، فهل يستوعب ذلك الطُّهر بأن كل ما يحدث من سحق طفولي جاء تحت ستار "الشرعية الدولية"، بينما الجيوش الجرارة ترفع رايات التفاوض باعتبارها ترياقًا يحسبه المتأزم نصرًا؟
سؤال آخر أكثر نضجًا يعجّ بالضحك على الذقون، أو لعلّه أقرب إلى ذر الرماد في العيون، أو ربما ملهاة تسكت بكاء العفة: لماذا يتضح العناد البائس عند الحالة العربية في تمسكها بمبدأ التفاوض؟ هل لها قدسيّة لا تُمس، رغم أنه لا روح لها ولا أثر ولا تقدير؟
تلك هي حجة الضعيف التي جعلت ورقة التفاوض أسطوانة مشروخة تتمايل بين المساومة والمهانة، فمن هو الحكم؟ ومن هو الخصم؟ وما هي جدوى المساعي "البريئة" إذا كانت تحاك في غرف وردهات الاستخبارات التي لم تفرق بين سرير طفل ومخزن أسلحة؟
إن الحرص البائس المعنون بالتفاوض لا يمكن وصفه إلا بالمهزلة، والمساومة لا يصح أن تسمى تكتيكًا، بل هي خيانة لأوجاع الإنسان، وجُلّ الأحبار التي تُمهر بها تلك الورقة المهترئة والسافرة من كل شيء إلا البياض ما هي إلا اغتصاب وبسط للسجاد تحت أقدام الغزاة.
إن أوراق التصور الأميركي تبدأ ببضاعة مزجاة رديئة، ثم تتحول إلى عدم قدرة أميركا على وقف عمليات إسرائيل العسكرية، معلقين شماعة عدم موافقة حماس على الاتفاق
سخرية التاريخ
عند النبش في التاريخ نجده يسخر منا لعدم استيعابنا للدروس؛ فمن حيث المقاربات السياسية التي تقترب إلى حد التماثل في وضع غزة الراهن والوضع الفلسطيني عامة، تتجلى اتفاقية ميونخ 1938، التي وصفها التشيك والسلوفاك بخيانة ميونخ، عندما وعدت بريطانيا وفرنسا بالسلام مقابل تمكين هتلر من منطقة "السوديت" التابعة لـتشيكوسلوفاكيا، حيث كانت الاتفاقية ورقة طمست فيها الحقوق باسم تفادي الحرب.. لكن ذلك أجج الحرب واتسع الخراب.
"أوسلو" هي الأخرى مهرت أوراقها تحت حرارة الأحضان وأيادٍ تتصافح بخضاب الدماء، إيذانًا بتقسيم الأرض وبناء المستوطنات، وهجرة اليهود إلى فلسطين، ونهب سيادة الأرض، وخنق الهوية الفلسطينية باجتماع وإجماع نيران الخصوم وتواطؤ الجيران.. وما زال زبدها طاغيًا في الأفق السياسي.
الانكسار الجمعي
إن الغياب "الجمعي" الذي أُشغل بهموم الخبز دون "الخبر والحبر" لم يعد في حيزه الوجودي، ولم تعد ورقة التوت من أصل الشجرة، بل زجت فيها بيانات منفوخة ومصقولة، ولم نجدنا لا في العير ولا في النفير، بل تحولت ثورة الدم إلى "تغريدة"، وغضبنا إلى "وسم"، ونفيرنا إلى نشرة فنية تنتهي بأغنية: "بيع الجمل يا علي".
إن المضحك المبكي يبرز في حالة الانكسار الجمعي الذي وقع بين ردهات المزادات الدبلوماسية، عندما تحول التفاوض إلى سلعة مقايضة وابتزاز: "أوقفوا القصف مقابل تسليم السلاح".. "أمهلونا يومًا نُخرج المدنيين ثم استأنفوا القصف"، "إعادة الأسرى مقابل وقف الحرب".. فالورقة تختزل وجعًا شعبيًا دونما ضمانات مستدامة، و"الموقف يُصاغ ليغتال الموقف"، كما قال محمود درويش.
إن أكبر صفقة يروج لها المنبطحون هي دولة منزوعة السلاح دون كرامة، كما وصفها "الزير سالم" في حواره مع "الجرو": سلام بلا خيول!ّ أي ذل؟ وهل وصلتم إلى حياة آمنة ومطمئنة وكريمة وفيها أنفة وكبرياء وقدرة على اتخاذ قرار، وفيها أحلام وطموحات؟ ليرد عليه الجرو: وما لنا ولهذا كله؟ فيقول الزير: ما لكم وللحياة إذًا؟ فيقول الجرو: لمَ تهول الموضوع إلى هذا الحد؟ فكان الرد قاصمًا: لأنك ملك أضحوكة.
إن المعاناة التي تشهدها فصول الانكسار الجمعي تعكس حالة الانفصام السلوكي، والشلل في القيم والأخلاق الذي يراد له أن يكون كذلك، وجميع أوراقه جفت وتساقطت ما عدا ورقة رفاهية الجسد
بؤس المشهد
إن أوراق التصور الأميركي تبدأ ببضاعة مزجاة رديئة، ثم تتحول إلى عدم قدرة أميركا على وقف عمليات إسرائيل العسكرية، معلقين شماعة عدم موافقة حماس على الاتفاق.. "هل تود حماس قتل الناس أم الموافقة على تسليم الرهائن؟"، على حد تعبير المبعوث الأميركي لشؤون الرهائن آدم بولر، الذي يُظهر البعد الإيجابي في التوصل إلى اتفاق، لكنه اتفاق مشوب بحقل من الألغام.
إن المعاناة التي تشهدها فصول الانكسار الجمعي تعكس حالة الانفصام السلوكي، والشلل في القيم والأخلاق الذي يراد له أن يكون كذلك، وجميع أوراقه جفت وتساقطت ما عدا ورقة رفاهية الجسد الذي يتعرى حتى من جلده.. وجميع الأوراق تتساقط، فلا تظهر لها براعم، والمشهد السياسي يعيش عقمًا في الجذور وجدبًا في التربة تتقاطع حوله الفصول؛ فمهما كان الحديث حول تقديم ضمانات لإنهاء الحرب على الفلسطينيين، فما ذلك إلا ابتزاز جديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.