من بين ما فسد في عالم اليوم المسألة التربوية، بل يمكن القول دون تجنٍّ إن المسألة التربوية قد أصابها وباء مفنٍ.
والغريب أنّ هذا الفساد تكشف عنه العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد، في الأُسَر وفي الأماكن العامة، في الأسواق والشارع والعمل والمعاملات البينية، كما يتجلى بشكل واضح في العلاقات بين الشعوب، حيث شاعت الأنانية والكراهية والانعزال، والانسحاب من كل شأن عام مشترك، والشره في اكتساب المال، والتضحية بالقيم والأخلاق من أجل الماديات.
هذا الفساد زادت حدته وتوسعه بالتوازي مع اتساع وتطور ما يسمى بمناهج وبرامج التربية والتعليم تنظيرًا وتنزيلًا!
يبدو أنّ هذا النوع الجديد من الأوبئة الذي أصاب التربية سببه مرتبط بالمنطق العام، الذي يؤطر رؤيتنا الكلية للأشياء والأحوال، وهي الرؤية التقنية.
فكما تم اختزال العلم بكل حقوله في التكنولوجيا، فإن مجال التربية هو أيضًا خضع للمنطق نفسه، ونُظر إليه نظرة تقنية محضة. وعلى أساس تلك الخلفية التقنية قامت المناهج والبرامج الحديثة في التربية، التي أنتجت هذا الفشل التربوي الكبير الذي تعيشه البشرية.
وفيما يلي بيان للفروق بين طبيعة المجال التربوي والمجال المعرفي والمجال التقني، التي ينبغي أن تراعى من أجل بلورة مناهج وبرامج متوازنة لمؤسسات التربية والتعليم والتكوين.
التربية مسألة معنوية محضة، تقوم على قيم الخير والنفع، على الضد من المسألة التقنية التي تقوم على القوة والحسم والفاعلية. فلو نظرنا مثلًا إلى التضحية كقيمة أخلاقية معنوية فإنها تسير في الاتجاه المعاكس للفاعلية والذكاء
التقنية وخصوصياتها
الرؤية التقنية تخضع لمحدد قيمي واحد، وهو الفاعلية، بينما المسألة التربوية بحكم طبيعتها المعنوية لا تخضع للفاعلية. واليوم، مع ظهور الجيل الأول من الذكاء الاصطناعي، تم تحوير الفاعلية تحويرًا لفظيًا فقط مع الحفاظ على جوهرها القيمي، فحل الذكاء محل الفاعلية.
الذكاء قيمة لا تقتصر على البعد التقني، بل هي اليوم وحدة قياس تربوي واجتماعي انتشرت عموديًا وأفقيًا، وعلى أساسها تتم عملية التنشئة والتربية والتكوين.
وعند هذه النقطة نتوقف لنبين، في اللحظة التاريخية التكنولوجية التي نعيش انطلاقتها المراهقة المندفعة، أن الفكر التربوي لم يعد يفرق بين المسألة التعليمية والمسألة التربوية والتكوين! وهذا واحد من التجليات الخطيرة لبزوغ الرؤية التقنية، وغلبتها في التفكير والفعل البشري اليوم.
هذا الاختزال للتربية والتعليم، ودمجهما تحت بعد واحد هو البعد التكويني التقني، سينتج عنه قريبًا الإنسان التقني ذو البعد الواحد. ولعله من المفيد اختصار الحديث هنا في هذا السياق حول الفرق -بل الفوارق- بين التربية والتعليم والتكوين.
التربية وقيم الخير
التربية مسألة معنوية محضة، تقوم على قيم الخير والنفع، على الضد من المسألة التقنية التي تقوم على القوة والحسم والفاعلية. فلو نظرنا مثلًا إلى التضحية كقيمة أخلاقية معنوية فإنها تسير في الاتجاه المعاكس للفاعلية والذكاء. وكهذا بقية القيم المعنوية التي لها صلة بالمسألة التربوية، كالتضامن والحب والوفاء وما إلى ذلك، بل حتى القيام بالواجب ليس مسألة تقنية ولا مسألة ذكاء، بل هو مسألة تربوية محضة.
التعلم سبيل الإنسان الأوحد لفهم ذاته وفهم محيطه وفهم العالم، ويحدد العلاقات الوجودية للإنسان، وهو بهذا المعنى لا صلة له بمسألة التكوين التقني
التعليم والمعرفة
أما المسألة التعليمية، فهي تقوم على البعد الفكري والفلسفي الذي يؤطر حياة الأفراد والمجتمعات في هذه الحياة. وقد يصلح أن نعتبر العملية التعليمية مسألة عقلية أو معرفية، فيما تعتبر المسألة التربوية مسألة نفسية أو خلقية.
فالتعلم سبيل الإنسان الأوحد لفهم ذاته وفهم محيطه وفهم العالم، ويحدد العلاقات الوجودية للإنسان، وهو بهذا المعنى لا صلة له بمسألة التكوين التقني. التكوين من جهته مسألة إجرائية عملية، تخضع لقياس الفاعلية والذكاء فقط، ولا يعيبها ذلك في شيء!
التوازن كمخرج
والذي تحتاجه البشرية خاصة في هذه اللحظة التاريخية الفارقة -والتي لم تنكشف بعد تبعاتها، وإن كانت بعض ملامح ما ستأتي به قد بدت في عدة مستويات علمية ومنتوجات تقنية وإبداعات فنية- هو العمل على ألا تهيمن التقنية وقيمها الأحادية على الإنسان رؤيةً وتفكيرًا وعملًا.
في ظل هذا المنعطف التاريخي الحاسم نعتبر أن معركة الإنسان الحر ستخاض على هذا المستوى، أي العمل على جعل التقنية -ومعها الذكاء- في موضعها الإجرائي العملي، دون أن تتحول إلى قيمة عليا في حد ذاتها، وأن تكون التقنية وإبداعاتها التكنولوجية الواعدة موجَّهة بتأطير معرفي فكري من جهة، ومسدَّدة بمعانٍ أخلاقية من جهة أخرى، تدور حول مفهوم الخير بمعناه الواسع، الذي يمسّ الأفراد والمجتمعات والمجال البيئي، ويمسّ الحاضر والمستقبل.
ينبغي أن يعلم أهل الأهلية الفكرية أن اللحظة تتطلب عدم التلكؤ والتراخي، وأن يعلموا أن هذا الواجب هو من أولى الأولويات، بل هو أولاها على الإطلاق
شروط ضرورية للنجاح
لن نتقدم خطوة واحدة في هذه الحياة نحو تحقيق توازن بين الأبعاد الثلاثة، التربية والتعليم والتكوين، يجنب البشرية الشقاء، ما لم نتخذ من الآن -وبشكل واعٍ ومسؤول- ما يلزم من إعادة صياغة مناهج التربية والتعليم والتكوين على ضوء هذه الرؤية التي قدمناها هنا، ذلك لأن العمليات الثلاث تم تفويض مؤسسات التعليم النظامي بها بشكل كلي. وهذا التفويض بحد ذاته يمثل أحد أوجه الخطر الذي يهدد المسألة التربوية والمعرفية بالأساس.
ومقالتنا هذه هي -أولًا- دعوة إلى كل خبراء التربية والتعليم للتحرر من لاهوت اللحظة التاريخية هذه، الذي هيمنت عليه مفاهيم وقيم عالم الذكاء والتقنية.
وثانيًا، هي دعوة لهم للتحرر من التبعية لما يتم تطويره من مناهج عابرة للقارات، سرعان تلقى انتشارًا ونجاحًا واسعين دون تمحيص، ولا يُدرى في أي مختبرات يتم تطويرها، كما لا يدرى لأي إنسان ولأي هدف وُضعت.
وثالثًا، هي دعوة إلى الأُسَر لاستعادة دورها المركزي والأساسي، الأول والأخير، في التربية. وهذا يتطلب الوعي بما يحتاجه الأبناء لتحقيق توازن نفسي ومعرفي ومهارات، وتحقيق توازن وجودي واجتماعي في هذه الحياة، ويتطلب الوعي التام بأن هذا الجانب لا يسمح بتفويض مؤسسات نظامية به لعدة أسباب.
بعض هذه الأسباب هو عين ما ذكرناه أعلاه، وبعضها مرتبط بطبيعة المؤسسات النظامية؛ فهي تعنى بتأهيل الأفراد كأفراد، لا كبعد إنساني مركب فيه الأخلاقي والتصوري والعملي، لخدمة النظم المهيمنة التي تتخذ أشكالًا متعددة.
وهي دعوة في المقام الأول لأهل التفكير والنظر لإيلاء هذا الأمر العناية اللازمة، والمساهمة في بلورة رؤية وتصور متكامل ومتجدد، والعمل بإصرار ووعي بأهميته -بل وضرورته- لتحقيق حياة مشتركة متوازنة، يسودها السلم والتعايش، والانخراط الجماعي في بناء عالم الغد.
ينبغي أن يعلم أهل الأهلية الفكرية أن اللحظة تتطلب عدم التلكؤ والتراخي، وأن يعلموا أن هذا الواجب هو من أولى الأولويات، بل هو أولاها على الإطلاق.
فالمسألة التقنية وذكاؤها الاصطناعي يتطوران بشكل غير مسبوق، ومع كل خطوة يخطوانها فإنهما يحدثان شرخًا بعيد المدى بينهما وبين إمكانية التدارك والإصلاح والتقويم وإعادة التأطير.
تنذر التحولات المرصودة في واقع الناس، كما في الخطاب المواكب لظهور الذكاء الاصطناعي، بانفتاح المستقبل البشري على عدة سيناريوهات، وليس فيها حتى الساعة مؤشرات تدعو إلى التفاؤل، وهذا الأمر يتطلب عاجلًا وبشكل متجدد عناية المفكرين وكل المعنيين بجانب التربية وبالقيم -سواء المؤسساتية أو الشعبية- من أجل تحقيق التوازن المطلوب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.