يؤسس موقف المهندسة المغربية ابتهال أبو السعد في احتفالية شركة مايكروسوفت في واشنطن لفعل احتجاجي واعٍ، بات يُنظر إليه على أنه مرآة عاكسة لصحوة أخلاقية ضد الحرب الإسرائيلية على غزة.
المهندسة أبو السعد، خريجة جامعة هارفارد العريقة، اتخذت من الذكرى الخمسين لتأسيس شركة مايكروسوفت العملاقة منصة للجهر بالحق والانتصار لقيم العدالة والإنسانية، في مواجهة صمت قبور كمّم الأفواه وخدر الضمائر.
وليس موقف ابتهال أبو السعد، وقد فضح تواطؤ مايكروسوفت في جرائم الإبادة في غزة، موقفًا نشازًا أو متفردًا، بل إنه امتداد موضوعي لمواقف متواترة في الغرب مناهضة للحرب الإسرائيلية على غزة، اختارت تقديم المواقف والقيم على المناصب والامتيازات.
باتت مواقع التواصل الاجتماعي تضج بتدوينات أو مقاطع فيديو، يعبر فيها أصحابها عن تقزز جلي من مواقف الغرب حيال حرب الإبادة في غزة، وانسلاخ إراديّ عن سياساته التمييزية تجاه القضية الفلسطينية
صدحت قبل ذلك أصوات في منابر متعددة، وفي مواقف مختلفة، لشجب تطبيع الحكومات والنخب السياسية والمثقفين والمؤثرين مع مشاهد القتل، والرقص على الجثث، ونحيب الأمهات الثكالى.
وفي موقف لم تعتده المؤسسات الأوروبية، نهرَ النائب في الحزب العمالي البلجيكي مارك بوتنغا وزير الشؤون الأوروبية البولندي آدم سلابكا، حينما فاجأه وهو يقهقه مع إحدى النائبات، أثناء جلسة عامة في البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ لمناقشة الوضع الإنساني في غزة.
رأى النائب البلجيكي في سلوك الوزير البولندي تحقيرًا للفلسطينيين في زمن الحصار والجوع، وترجمة صريحة لموقف أوروبي منافق ومتواطئ مع إسرائيل خطابًا وممارسةً.
وفي جلسة لاحقة، استنكر النائب البلجيكي فحوى تصريحات لمفوضة الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي، كاياك كالاس، تباهت فيها خلال زيارة لإسرائيل، أواخر مارس/ آذار الماضي، بالشراكة بين تل أبيب وبروكسل.
ردّ النائب اليساري بالقول إن مثل هذه المواقف مخزية؛ لأن الأوروبيين لا يمكن أن يكونوا شركاء لإسرائيل في جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية.
أما زميله مايك والاس فقد أجهش بالبكاء، وهو يستحضر الجرائم بحق الفلسطينيين في غزة وتواطؤ الاتحاد الأوروبي. وكذلك فعل توماس غولد، النائب في البرلمان الأيرلندي، وهو يستعرض شريط تقتيل الأطفال والنساء في غزة.
وفي المنحى ذاته، باتت مواقع التواصل الاجتماعي -في مؤشر دال على هذه الصحوة الأخلاقية- تضج بتدوينات أو مقاطع فيديو، يعبر فيها أصحابها عن تقزز جلي من مواقف الغرب حيال حرب الإبادة في غزة، وانسلاخ إراديّ عن سياساته التمييزية تجاه القضية الفلسطينية.
وفي خط موازٍ، تحولت باحات الجامعات المرموقة، في أوروبا كما في الولايات المتحدة، إلى منابر للجهر بالدعم للفلسطينيين، والاحتجاج على تزييف الوعي الغربي بسرديات ممجوجة، تسوق المسوغات والذرائع لاستباحة الدم الفلسطيني وابتلاع الأرض، فيما توالت على نحو لافت استقالات مسؤولين غربيين احتجاجًا على سياسات ومواقف حكوماتهم من الحرب على غزة، وجابت المسيرات والمظاهرات شوارع كبريات العواصم، ضمن حراك شعبي جارف يجسد تغير الوعي الجمعي، بعد أن ضاق ذرعًا بلعبة ازدواجية المعايير، والانحياز الأعمى لإسرائيل، وغض الطرف عن جرائمها وانتهاكاتها المستمرة للقانون الدولي بعيدًا عن أي مساءلة أو محاسبة.
سقف الموقف لم يتجاوز حتى الآن عتبة العودة العقيمة إلى المطالبة بحلّ الدولتين بما يتسق مع إرادة المجتمع الدولي، مع استحضار حقيقة أن هذه الدعوة لم تقترن بما يعضدها سياسيًا
تتبدى ملامح تبلور هذا الوعي الجديد في الغرب إزاء القضية الفلسطينية في النقاشات الفكرية، التي طغت على مدار الأشهر الأخيرة في الدوائر الثقافية والأكاديمية بشأن الموقف الأخلاقي من الحرب في غزة، والتي أفلحت في استنهاض وعي متجدد ومضاد، يمحص في منظومة القيم الغربية ويسائل سياسات الحكومات بشأن مواقفها من الصراع العربي الإسرائيلي.
من هذا المنظور، شكلت الحرب في غزة وخزة حادة في ضمير الغرب، أعادت تشكيل أولوياته، وفرضت بهذا المعنى مراجعة جذرية لحزمة من المفاهيم والتصورات، ضمن اشتباكات أيديولوجية كانت قد اختفت من المشهد تمامًا.
في المحصلة، يمكن أن ينظر إلى ارتدادات الحرب الإسرائيلية على غزة، التي تتجاوز حدود رقعتها الجغرافية الضيقة، على أنها مدخل نحو قراءة جديدة للصراع العربي الإسرائيلي، وللقضية الفلسطينية تحديدًا، على قاعدة فهم وإدراك جديدين لطبيعة الصراع ورهاناته المتشعبة والمعقدة، بعيدًا عن التنميطات والكليشيهات التي روجت لها آلة الدعاية الإسرائيلية.
لكن، مع أن هذه التحولات العميقة في الوعي الغربي قد ساهمت بدرجات متفاوتة في حمل بعض الحكومات على تعديل مواقفها جزئيًا، ومراجعة خطابها السياسي من القضية الفلسطينية، فإنها لم تصل بعد إلى مستوى التأثير السياسي الفعلي.
أما سقف الموقف الغربي عمومًا فلم يتجاوز حتى الآن عتبة العودة العقيمة إلى المطالبة بحل الدولتين بما يتسق مع إرادة المجتمع الدولي، مع استحضار حقيقة أن هذه الدعوة لم تقترن إلى حدود الساعة بما يعضدها سياسيًا، في اتجاه تفعيل هذا المطلب الذي يحقق الحد الأدنى من العدالة للفلسطينيين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.