لا تسألني من أنا، فإن السؤال عن الهُوية كالبحث عن ماء في سراب؛ يلوح للناظر قريبًا، فإذا اقترب منه تلاشى، ولم يبقَ منه سوى وهْم يتشبث به من ظن أن الإنسان محض اسم في وثيقة، أو مهنة تزاول، أو نَسَب يُجر خلفه كما يُجر الظل خلف صاحبه.
أما من أدرك أن الذات بحر بلا شطآن، وأن السؤال عنها كمحاولة القبض على الريح، فلن يسألك من تكون، بل سينظر إليك كما تنظر المرآة إلى الملامح في لحظة صفاء، ثم تنساها كما جاءتها، لا تحفظ منها إلا أطيافًا عابرة.
أنا ما أكونه حين لا يراني أحد، حين أُسقط عني أقنعة التجمل، وأقف أمام ذاتي كما يقف الغريب أمام المرآة، متهيبًا أن يحدق طويلًا خشية أن يرى وجهًا لا يعرفه
إن كنت تظن أنك حين تسألني عن ذاتي ستظفر بجواب يشبع فضولك، فأنت واهم! أتطلب مني تعريفًا يختزلني في كلمات جامدة، وأنا كيان يتغير كل لحظة، يولد مع كل إشراقة، ويموت مع كل غروب؟
أأقول لك إنني كومة مشاعر متناقضة، تارةً أطير مع الفرح بلا جناحين، وتارةً أغرق في لجج الحزن بلا قاع؟ أأقول لك إنني كلما حسبت نفسي قد عرفتني، وجدتها تفلت مني كما يفلت الماء من بين الأصابع، أو كطيف يدنو، فإذا حاولت لمسه تلاشى؟
أنا ما أكونه حين لا يراني أحد، حين أُسقط عني أقنعة التجمل، وأقف أمام ذاتي كما يقف الغريب أمام المرآة، متهيبًا أن يحدق طويلًا خشية أن يرى وجهًا لا يعرفه. أنا الفِكَر التي تتلألأ في رأسي قبل النوم، ثم أستيقظ فلا أجد منها إلا أثرًا باهتًا، كحلم يتبخر مع أول خيط للفجر.
لا تسألني من أنا، لأنني لست ذاتي التي كنتها أمس، ولا التي سأكونها غدًا، لكن مزيج من كل ما مضى، وكل ما لم يحدث بعد
أنا الأسئلة التي تعصف بي ولا أجرؤ على النطق بها، وأنا الأماني التي علقتها على حبال الرجاء، فأتعبها الزمن حتى تراخت وانطفأت.
لا تسألني من أنا، لأنني لست ذاتي التي كنتها أمس، ولا التي سأكونها غدًا، لكن مزيج من كل ما مضى، وكل ما لم يحدث بعد. أنا الطفل الذي ما زال يختبئ في أعماقي، والعجوز الذي ينتظرني في آخر الطريق.
أنا كل الذين مروا بي وتركوا فيَّ أثرًا، وكل الذين مررت بهم ولم أدرك كم أخذت منهم. أنا الخيبات التي علمتني كيف أنهض، والآمال التي تعلمني كيف أمضي ولو كنت مثقلًا باليأس.
فلا تسألني من أنا، لأنني لم أجدني بعد، وإن كنت أعرف أني كل شيء ونقيضه، وأني ظل يسير تحت ضوء الشمس، فإذا جاء الليل بحثت عني فلم أجد غير طيف هائم بين الحلم والعدم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.