تعتبر المدن وتشكيلات عمرانها مكونًا هامًا في صياغة هويتنا وثقافتنا، وهي غير مرتبطة بحاجاتنا في السكن والترفيه فحسب، بل بقدرتنا على ابتكار نماذج فريدة من نوعها تواجه المشاريع الاستيطانية، ولعل استعمار الأرض أكثر مما يعمُرها المستخلفون، قد أسهم في رسم تنوع ثقافي وهوياتي ترويه أطلال مدن تاريخية عريقة.
وبقدر ما ألهمت الفنون تألقًا للعمران في بلاد الأندلس، تنبري أسطورة الجمال في الفنّ المعماري الإسلامي شاهدة على حاضرة متنوعة الثقافات والقوميات، حيث تاريخ الأندلس يسرد ثقافة معمارية تلفت انتباهنا للزحف الإسمنتي، الذي يكاد أن يصبغ مدنًا بأكملها بلون رمادي بارد، يسطو بقوّة على الثقافة والتاريخ والإنسان، فما الذي يجعل العمران سلاحًا استعماريًا لتغيير ديمغرافية المستعمَرين؟
على اختلاف مجتمعاتنا وحتميتها التاريخية المنضوية تحت سطوة التبادلات الاقتصادية، تنبري فكرة "التألق العمراني" كمشروع مغيّب تمامًا لمجابهة الزحف الرمادي بقوّة التهجير القسري والإبادة الجماعية وفق سياسات الاستيطان
القبور المعلّقة
قد ننبهر بأبراج السحاب الزجاجية وتكلفتها المادية الهائلة، لكنها في واقع الأمر "قبور معلّقة في السماء" تعجّ بآلاف الساكنة، الذين يرقبون ملايين الأطنان من الإسمنت كيف تغيّر ملامح إنسانيتنا وتاريخنا، ولنقل إنّ الثقافة العمرانية في شكلها الحداثي باتت ترمز جماليتها إلى اغترابنا داخل المدن الكبرى.
فالتطور والرقي الحضاري ليسا مرتبطين بصلابة الإسمنت فحسب، بل بالمخاطر الناجمة عن استدراجنا نحو العزلة بمدن منكفئة على ذاتيتها، حيث نفقد تاريخنا وثقافتنا وقدرتنا على رفض الاستغلال وسياسات الاستيطان.
ثمة علاقة مهمة بين الإنسان والعمران تكمن في مدى استجابتهما للفن وإبداعاته، إذ إنّنا توّاقون نحو عوالم أكثر جمالًا وابتكارًا، حيث الذاكرة تستحضر تاريخًا مثخنًا بالأطلال لا مشاريعنا الذاتية، وتعاقُب الحضارات على جغرافيا ما أورثها تاريخًا عمرانيًا، تشكلت ضمن حلقاته ثقافة الابتكار والتذوق الفني. ولكن ما الشيء الذي يدفعنا لاستعادة أطلال ثقافة عمرانية تحن لحقبة تاريخية، وقفت قصورها شاهدة على تأخرنا؟
يتعلّق الجواب عن السؤال بشعور الانتماء والبحث عن هُوية تزيح اغترابنا، وتاريخ يرفض الإذعان لقيم العولمة وقواعد أبراجها الإسمنتية التي تجتاح الطبيعة والإنسان، فالغزو العمراني لم يعد متعلّقًا بمخاوف زوال الغطاء الأخضر، بل بات ينفخ الخوف من تصلب الحضارة وترسيخ عنصريتها، والسعي لتحقيق مشروع ريفيرا الشرق الأوسط وتهجير الفلسطينيين.. اعتراف بتأزم الحضارة وعدم قدرتها على استيعاب القيم الإنسانية، فالمدينة بقيت الفضاء الأنسب لتورطنا في إكراهات الفردانية، وتحديدها للعلاقات الإنسانية إلا من المنظور المادي والنفعي.
تتلاقى الثقافة مع التاريخ كلوحة فنيّة للعمران حين نبدع في إنتاج المتميز والفني، وعلى اختلاف مجتمعاتنا وحتميتها التاريخية المنضوية تحت سطوة التبادلات الاقتصادية، تنبري فكرة "التألق العمراني" كمشروع مغيّب تمامًا لمجابهة الزحف الرمادي بقوّة التهجير القسري والإبادة الجماعية وفق سياسات الاستيطان، ولو نظرنا إلى أطلال الاستعمار الفرنسي كيف تزاحم لوحات إسلامية في ضفاف الجنوب، لأدركنا رغبته في تكريس هوية إمبراطورية أقرتها سياسات الاستيطان المعززة لهيمنته على الأراضي، وفق أطروحات إلغائية لتاريخنا الفني والجمالي.
تمثل بقايا العمران الفرنسي في الجزائر معضلة تاريخية وثقافية في الذاكرة الجمعية للمستعمَرين، فهو لم يكن غنيمة حرب بقدر ما أكد على حقبة تاريخية ألغت بموجب القانون الفرنسي المشيخي سنة 1863 قرى بأكملها من معجم الحضارة، وصاغت إستراتيجية إقصائية مع استحداث المدن الحضرية، وتحويل القرى من "نسقها الإسلامي" إلى "استيطان غربي إلغائي".
ففي الجزائر قام الاستعمار الفرنسي باستحداث مدن جديدة لتعزيز تواجده الكولونيالي، مستغلًا تفوقه الصناعي والاقتصادي لتزييف الحواضر الإسلامية بعزلها وتحييدها، وخلق بؤر استيطانية فرنسية لصياغة مفاهيم مغايرة عن الأرض والتاريخ والحضارة، فكان التهجير سياسة ممنهجة لدكّ ما تبقى من عمران كشفت أطلاله قرونًا من الإبداع الإسلامي.
استطاع المستعمِر الفرنسي أن ينتج مدنًا بأكملها لتعزيز خطاب التفوق الحضاري الغربي، وأسهمت هيمنة عمرانه المهدد للطبيعة والتنوع البشري في صياغة هوية متصلبة، تعيش اغترابًا فاضحًا ونزوحًا نحو مناطقه الرمادية.
حتى الغربي ذاته أصبح يدرك أنه تحت وطأة استعمار مؤسساتي معولم، حجب عنه ثرواته التي تساق نحو الملاذات الآمنة للقادة الأوروبيين، إذ يقف قصر الحمراء شاهدًا على تاريخ وفنّ العمران الإسلامي، أمام سطوة الاستلاب الإسمنتي ومزاعم معاداة التنوّع والدفع نحو تهجير الفلسطينيين، وحيث الزجاج يسرد مآسي الزحف الرمادي المتطاول في البنيان، تزداد الحضارة افتقارًا لأدنى سمات الإقرار بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
ثمة مفارقة مربكة في عصر تتجاذبه الوظائف والتحديات الاقتصادية، هو نزوح أهل المدن نحو البؤر والضواحي الفوضوية، للحصول على سكن عمومي يسهّل لهم الحياة اليومية، وفي ذلك النزوح تكلفة اجتماعية وأخلاقية تهدد الروابط الأسرية
مدن الضواحي
ماذا لو نظرنا إلى مدننا المترامية على مساحات كبيرة؟ بالتأكيد سنبصر حجم الكارثة العمرانية التي منيت بها عواصم عدة، وهي تعيد صياغة ما يفترض أنه "الوعاء الحضاري" لثقافتنا وتاريخنا وهويتنا، لكن ومع مشاهدتنا للإسمنت وهو يبتلع الأراضي الزراعية، استطاع اللون الرمادي أن يمنح زجاج البنايات الشاهقة للمدن القائمة من ركام الفوضى والحروب، ضواحي هشّة تعتاش من مخلفات الحضارة الموغلة في الاستهلاك، وقد فتحت التصاميم الحديثة للعمران باب الهجرة نحو المدن، حتى إنّ بناياتها الشاهقة تقارع الضواحي والبؤر الفوضوية في عواصم تشهد على جور الحضارة وقسوتها، وتصميم أبراجها السكنية يختزل الثقافات المغايرة في أشكالها الحداثية، وتحمل دلالات سياحية وتجارية للآخر الذي يريد أن يبصر حضارته وثقافته وهي تغزو الفضاءات الأكثر تمردًا على قيمه، وذلك ناجم عن رفضنا للابتكار فيما يفترض أنّه معزز للثقافة والهوية المحلية.
لا يمكننا التفريق بين القرى والمدن المستحدثة مع ما تشهده الأخيرة من سقوط في قبضة الغزو الإسمنتي، وازدياد أعداد المهاجرين من الأرياف نحو المدن، لسهولة العيش كما يراها إنسان الحضارة الموغل في الاستهلاك والنشاط الصناعي، حتى مدن الإسمنت لم تسلم من الطابع العنصري تجاه الحواضر التاريخية وأطلالها لتغدو هي الأخرى ضواحي.
ثمة مفارقة مربكة في عصر تتجاذبه الوظائف والتحديات الاقتصادية، هو نزوح أهل المدن نحو البؤر والضواحي الفوضوية، للحصول على سكن عمومي يسهّل لهم الحياة اليومية، وفي ذلك النزوح تكلفة اجتماعية وأخلاقية تهدد الروابط الأسرية، لها تداعيات نفسية على الأفراد، فحيث الضواحي تغيب سلطة المراقبة، ويسكن الخوف المكان، وتُسجن الأخلاق في مرابض المخدرات، وتغيب الدولة المدنية، ويحضر بدلها العنف المنظم، بالإضافة إلى النتائج الصحية المخيفة للساكنة.
تفرض المدن قواعد اقتصادية واجتماعية مكلفة للذوبان في طابعها الصناعي والاستهلاكي، ومع ازدياد وتيرة ما يفترض أنّه توجّه اقتصادي للسياسات الاستيطانية، يرسّخ الوعاء العقاري أزمة في زحفه نحو الإنسان، ومقاومة لتهجير السكان عن أرضهم كونهم هامشًا تحت جرافات المشاريع الاقتصادية.
ما تزال المدن مع عمرانها تعيش مرحلة النّماء التي تفتقر إلى ترسيخ ثقافة الانتماء؛ فأسماء أحيائها وشوارعها لا تعدو أن تكون أرقامًا مستعارة من المستعمِر، لتأتي مشاريع تصفية الشعوب ضمن حلقة الاستيطان العمراني للاستعمار، كأداة يتم بواسطتها تحييد التوصيف الإنساني للحق في الأرض، ليكون بداية للتهجير القسري.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.