في دولة بعيدة عن العواصف الكبرى، تقع على هامش الأخبار اليومية لِمن لا يقرأ سوى الخرائط، اندلعت أزمة ثقافية وسياسية من رحم خطأ صحفي بسيط في الظاهر، بالغ الدلالة في العمق.
ففي 15 أبريل/ نيسان 2025، نشرت صحيفة ماليزية صينية واسعة الانتشار تُدعى سين تشيو ديلي (Sin Chew Daily) صورةً للعلم الوطني الماليزي دون هلاله الأصفر (الرمز الإسلامي الأهم في ذلك العلم).
وقع ذلك في خضم زيارة رسمية للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى كوالالمبور، وكأن الخطأ حمل طيفًا من رسائل لا تُقال، وأعاد فتح خزائن التاريخ، وخلخل توازنًا عرقيًّا هشًّا تعيشه ماليزيا منذ نشأتها.
لم تكن الهفوة مجرّد تقصير فني، بل كانت بمثابة خيط صغير تم سحبه من نسيج دقيق، فكشف تحته عن توترات مضمرة، وحساسيات تاريخية مكبوتة، وشعور متبادل بالاغتراب بين المكوّنات العرقية في هذه البلاد المرهفة بالتعدد، المتحفّزة دومًا للانقسام.
الملايو، الذين يُعَدّ الإسلام شرطًا لانتمائهم العرقي الرسمي، ينظرون إلى الهلال في العلم الماليزي على أنه رمز لوجودهم التاريخي والسياسي في البلاد
بلد بثلاث لغات وثلاث قوميات
ماليزيا ليست دولة أحادية الثقافة أو الدين، بل هي حقل لغوي وتاريخي متشابك، تسكنه ثلاث عرقيات كبرى، هم: الملايو المسلمون، والصينيون البوذيون أو المسيحيون، والهنود الهندوس أو المسيحيون. وتُعد الملايو الأغلبية العددية، وهم وحدهم -بحسب الدستور- من يُسمّون بـ"البوميبترا" أو "أبناء الأرض"، مع بعض العرقيات في ولايتي صباح وشرارتك الشرقيتين، ويُمنحون امتيازات في الوظائف العامة والتعليم والإسكان.
في المقابل، يمسك الماليزيون من أصل صيني بخيوط الاقتصاد والتجارة والإعلام، ويتحدثون لغتهم الخاصة، ولديهم مدارسهم، ونُخبهم، وصحفهم، ومنها صحيفة سين تشيو ديلي، التي كانت محور الأزمة الأخيرة.
تأسست الصحيفة عام 1929 في سنغافورة، ثم انتقلت إلى ماليزيا، وتحوّلت إلى أحد أبرز منابر الجالية الصينية، وتملكها اليوم مجموعة الإعلام الصينية الدولية المحدودة، وهي شركة مدرجة في بورصتي كوالالمبور وهونغ كونغ، يديرها رجل الأعمال الماليزي-الصيني تيونغ هيو كينغ. هذا الارتباط بالمشهد الإعلامي الصيني لم يكن يومًا بلا تكلفة سياسية.
الهلال في العلم الماليزي ليس رسمةً عابرة، بل هو اختزال رمزي للإسلام، الدين الرسمي للدولة، وفق المادة الثالثة من الدستور. والملايو، الذين يُعَدّ الإسلام شرطًا لانتمائهم العرقي الرسمي، ينظرون إليه على أنه رمز لوجودهم التاريخي والسياسي في البلاد. ولذلك، فإن غيابه لم يُقرأ كبساطة طباعية، بل كطمسٍ بصريٍّ لهويةٍ متجذّرة.
الملك الماليزي نفسه -السلطان إبراهيم إسكندر- وصف الحادثة بأنها "غير مقبولة"، مؤكدًا أن العلم يمثل كرامة الدولة. ورئيس الوزراء أنور إبراهيم، أحد أبرز المفكرين الإسلاميين، قال إن "الرموز الوطنية ليست أمرًا تافهًا"، داعيًا إلى ضبط الغضب، لكن دون التساهل في احترام الرموز.
يواجه من تثبت إدانته بموجب هذه المادة غرامة تصل إلى 1,000 رينغيت ماليزي (حوالي 212 دولارًا أميركيًّا)، في حين تنص المادة 4 (1) (ب) على عقوبة بالسجن تصل إلى ثلاث سنوات
الشرخ الرمزي وردود الفعل
ليست هذه المرة الأولى التي تُثار فيها أسئلة حول موقف (سين تشيو ديلي) من القضايا الإسلامية أو الملايوية، ليس لأنها تعادي الإسلام، بل لأنها كثيرًا ما اتُّهمت باتخاذ مواقف "مضببة"، لا تعبّر عن انفتاح نقدي ولا عن التزام تحريري مبدئي، بل تُقرأ أحيانًا كخطاب مهادن لتيارات السلطة الدينية.
ففي قضية لينا جوي، المرأة المسلمة التي اعتنقت المسيحية وسعت لتغيير ديانتها في وثائق الهوية، أظهرت دراسة أن تغطية الصحيفة اعتمدت بدرجة ملحوظة على مصادر تؤيد الموقف المستند إلى الشريعة الإسلامية، بينما غابت عنها إلى حد كبير أصوات المدافعين عن حرية الاعتقاد، أو الخطابات الحقوقية ذات الطابع الليبرالي.
ذلك الانحياز لم يُقرأ حينها كدفاع عن الإسلام، بل كنوع من التكيف التحريري الذي ينأى بنفسه عن الاصطدام، وهو ما يعكس الحرج العميق الذي تعيشه المؤسسات الإعلامية الصينية في ماليزيا بين هويتها العرقية المتميزة، وواقعها القانوني كفاعل ضمن دولة تُعرّف نفسها أولًا كدولة إسلامية.
بمجرد أن انتشرت صورة العلم الناقص انهالت البلاغات على الشرطة.. أكثر من 40 بلاغًا في يوم واحد. دعا سياسيون من المنظمة الوطنية الماليزية المتحدة (أمنو)، وهي الحزب الذي مثّل تاريخيًّا العمود الفقري للملايو المسلمين في السلطة، إلى اتخاذ عقوبات صارمة، وطالب البعض بإلغاء ترخيص الصحيفة.
أما الصحيفة، فقد سارعت إلى الاعتذار بثلاث لغات، وعلّقت عمل رئيس تحريرها ونائبه، وفتحت تحقيقًا داخليًّا، فيما دعت جمعية الصحف الصينية إلى عدم تضخيم الخطأ، وتفهم حساسيته.
القانون لم يكن أكثر حسمًا، إذ لا يجرّم تحديدًا "تشويه العلم"، لكن الشرطة الماليزية قالت إن القضية تُحقق حاليًا بموجب المادة 3 (1) (ج) من قانون الشعارات والأسماء (منع الاستخدام غير اللائق) لعام 1963، والمادة 4 (1) (ب) من قانون المطابع والمنشورات لعام 1984.
ويواجه من تثبت إدانته بموجب هذه المادة غرامة تصل إلى 1,000 رينغيت ماليزي (حوالي 212 دولارًا أميركيًّا)، في حين تنص المادة 4 (1) (ب) على عقوبة بالسجن تصل إلى ثلاث سنوات، أو غرامة لا تتجاوز 20,000 رينغيت ماليزي (حوالي 4.240 دولارًا أميركيًا)، أو كلتا العقوبتين معًا.
ماليزيا، بهذا المعنى، لا تحتاج إلى رقابة أكثر، بل إلى ثقة أعمق.. إلى عقد اجتماعي جديد يعترف بالاختلاف لا يُخفيه، ويتصالح مع الرموز لا يُجمّدها
تعايش ماليزي على صفيح اللغة
حادثة "الهلال الغائب" ليست مجرد خطأ تحريري في صحيفة صينية، بل هي مرآة لعطب أعمق في مشروع التعدد الماليزي. بلد لا يُجمع على لغة، ولا على دين، ولا على تاريخ، بل يقف على توازنات دقيقة لا تصمد أمام زلة قلم أو فراغ صورة.. ما يغيب هنا ليس الهلال وحده، بل غياب الإدراك الجماعي لمفهوم التعدد كقيمة لا كأزمة مؤجلة.
ماليزيا، بهذا المعنى، لا تحتاج إلى رقابة أكثر، بل إلى ثقة أعمق.. إلى عقد اجتماعي جديد يعترف بالاختلاف لا يُخفيه، ويتصالح مع الرموز لا يُجمّدها؛ ففي بلد تُرفرف فيه الأعلام بثلاث لغات، فإن غياب شكل قد يعلن انهيار معنى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.