شعار قسم مدونات

القصيدة ومواكبة العصر الرقمي

Omran Abdullah - انبثق شعر الهايكو عربياً من صميم المثقافة العربية اليابانية مطلع القرن الماضي، ويدور الجدل حول مشروعيته، ويكي كومون - شعر الومضة والتأمل.. الهايكو العربي يُفشل رهانات النقاد ويتجه من اليابان للمغرب والعالمية
رغم أن قصيدة "الهايكو" تحمل في أصلها روحًا يابانية، فإن بعض النماذج العربية نجحت في استثمار جماليات هذا الشكل الشعري (الجزيرة)

في عصر الانتشار الواسع للوسائط الرقمية، كان لا بد للشعر أن يتفاعل مع أشكال أدبية وفنية أخرى ليواكب تغيرات هذا العصر؛ لتكون ولادة القصيدة الرقمية نتيجة طبيعية لتلاقي القصيدة المعاصرة مع الأشكال الأدبية القصيرة، مثل الومضة السردية والهايكو، هذه الأشكال التي تعتمد على الإيجاز والكثافة بصورة تتناسب مع طبيعة المنصات الإلكترونية، التي تتطلب نصوصًا قصيرة وسريعة التأثير.

لم يكن بإمكان القصيدة المعاصرة أن تبقى بمعزل عن التحولات الثقافية والاجتماعية والتكنولوجية، ومع انتشار منصات التواصل الاجتماعي، مثل "إكس" و"إنستغرام" و"فيسبوك"، أصبحت النصوص القصيرة أكثر ملاءمة للعصر الرقمي، حيث يفضل الجمهور المحتوى السريع والمكثف، والذي يتيح لهم التفاعل مع النص من خلال التعليقات أو المشاركة، في عصر يتصف بالتواصل والتشاركية الرقمية.

تتجلى فكرة الومضة الشعرية من خلال استيعابها عناصر مثل السرد، والرمزية، والحوار، والتأثيرات البصرية، ضمن حالة شعرية مكثفة، غالبًا ما تتضمن حبكة درامية، ومشهدًا يمثل قصة قصيرة

الومضة لغةً من "وَمضَ"، وومض البرق: لمع خفيفًا، وأومضت المرأة: سارقتِ النظر، وأومض فلان: أشار إشارة خفية. وفي هذا المعنى شيء من اللمعان والتألق والإشراق والتوهج، وفيه شيء من الإدهاش والتشويق، وفيه شيء آخر من الشفافية والغموض الآسر وعدم الإيضاح لكل شيء، وفيه شيء آخر من التكثيف والاختزال والاقتصاد اللغوي، وقد قيل: "البلاغة هي الإيجاز"، وقيل "خير الكلام ما قل ودل". ويتلاقى مع معنى الومضة البرقية؛ ولذلك يقال: القصيدة البرقية هي القصيدة الومضة، وهي قصيدة مكثفة ومختزلة جدًا.

إعلان

في التاريخ المعاصر، بدأ هذا النمط الشعري بالظهور والبروز في ستينيات القرن المنصرم، وكان من رواده الشاعر عز الدين المناصرة، الذي أطلق عليه في حينه مصطلح "التوقيعة"، اشتقاقًا من فن التوقيعات في الأدب العربي القديم. ومن توقيعات المناصرة:

وصلت إلى المنفى

في كفي خُفُ حنين

حين وصلت إلى المنفى الثاني

سرقوا مني الخفين

ويعرّف عز الدين المناصرة "التوقيعة" بأنها: "قصيدة قصيرة مكثفة؛ تتضمن حالة مفارقة شعرية إدهاشية، ولها ختام مدهش مفتوح، أو قاطع حاسم، وهي تختلف عن القصيدة القصيرة من حيث مفهوم الكثافة الشعرية".

تتجلى فكرة الومضة الشعرية من خلال استيعابها عناصر مثل السرد، والرمزية، والحوار، والتأثيرات البصرية، ضمن حالة شعرية مكثفة، غالبًا ما تتضمن حبكة درامية، ومشهدًا يمثل قصة قصيرة في كلمات معدودة رغم قصرها، حيث تُظهر الومضة بعدًا سرديًا مكثفًا.

ومن أهم ميزات الومضة الشعرية الخيالُ المتوقد، والحساسية المرهفة، والابتعاد عن الحشو والزيادات، والاتصاف بانتقائية اللفظ وتميز الصورة، والقدرة على التأثير في المتلقي.

فالشاعر الوامض أطاح بدكتاتورية المؤلّف ليعلن ديمقراطية المتلقي، الذي سيعتمد على ثقافته وذكائه وذوقه في عملية ذكية جدًا من الشاعر لا تخلو من المراوغة؛ حيث يجعل المتلقي يعتقد أنه أمام ذات الشاعر، في حين أن المتلقي في الحقيقة يقف أمام ذاته وخياله.

وبذلك بدأ يتشكل "نمط جديد في الكتابة الشعرية، طغى عليها طابع السرعة والاختزال في العقود الثلاثة الأخيرة، نتيجة سيطرة التكنولوجيا الحديثة وانتشار وسائل التواصل".

إذًا، لقد كان للمناصرة قصب السبق في ذلك، فهو أول من استخدم مصطلح "التوقيعة" في منتصف الستينيات، وكذلك نجد نزار قباني قد استخدم في قصيدته "هوامش على دفتر النكسة" في عام 1967 مصطلح (البرقية- التلكس)، وهو مفهوم قريب من مصطلح المناصرة.

وفي التسعينيات تزايد عدد الشعراء المهتمين بكتابة الومضة، ومن أشهرهم سامي مهدي، ويوسف الصائغ، وإبراهيم نصر الله، وشوقي بغدادي، وغيرهم من الشعراء. ولعل من أهم مميّزات قصيدة الومضة الصورةَ الشعرية، التي تبرز جليًا في شعر الومضة للشاعر التونسي لطفي تياهي:

إعلان

"في غيابكِ.. صارت القهوة مرّة.. أدركت متأخّرًا أنّ التفكير فيكِ لا يحرّك السُّكَّر"

في هذه الومضة نجد أن الصورة الشعرية اكتسبت جمالها من العمل داخل اللغة بإحداث علاقات جديدة بين المفردات، كما في ومضة "المئذنة" لأدونيس:

"بكت المئذنة.. حين جاء الغريب اشتراها.. بنى فوقها مدخنة"

على غرار أدونيس انتهج التياهي النهج نفسه، وأحدث علاقة جديدة بين المفردات في ختام القصيدة (بين التفكير فيها وتحريك السكر)، حقّقت انزياحًا فجّر لحظة وعي متأخّرة لدى الشاعر، أحدثت توتّرًا شعريًّا، وبالتالي جاء إحداث تأثير جماليّ وإدهاش ومتعة لدى المتلقّي.

في زمنٍ يتسارع فيه كل شيء، تظل القصيدة -مهما تغيرت أشكالها- ملاذًا للروح الباحثة عن المعنى وسط ضجيج العالم الرقمي. وبين "الومضة الشعرية" و"الهايكو"، تتجلى قدرة الشعر على التأقلم، محتفظًا بجوهره العميق رغم تكثيفه في كلمات قليلة

كذلك تفاعل الشعراء مع الأشكال الأدبية العالمية، كما هو الحال في تفاعلهم مع قصيدة "الهايكو"، وهي شكل شعري نشأ في اليابان، ويتميز بالإيجاز والتركيز على لحظة شعورية مرتبطة بالطبيعة أو الحياة اليومية. يتألف "الهايكو" التقليدي عادة من 17 مقطعًا صوتيًا، موزعة على ثلاثة أسطر (5-7-5).

اليوم، انتشر هذا الشكل الأدبي في الأدب العالمي، بما في ذلك الأدب العربي، حيث "تفاعل الشعراء العرب المعاصرون مع روح الهايكو بأساليب متنوعة، وقاموا بإعادة صياغتها بما يتلاءم مع التجربة الثقافية والشعورية العربية".

وقد بدأ عديد من الشعراء المعاصرين في استلهام روح "الهايكو" في قصائدهم الرقمية، حيث يتم تقديم لحظات تأملية مختصرة تنشر على المنصات الإلكترونية.

هذه القصائد تتفاعل مع الصور والموسيقى في بعض الأحيان، لتعزز المفهوم الرقمي من خلال الأثر الشعري اللحظي لهذا التفاعل.

ومن أبرز الأمثلة على هذا الاهتمام كتاب "أنطولوجيا قصائد الهايكو العربية"، الصادر عام 2019، والذي اشتمل على مختارات شعرية لـ 249 شاعرًا وشاعرة من العالم العربي، ممن خاضوا تجاربهم الشعرية مستلهمين قالب "الهايكو" الياباني.

ورغم أن قصيدة "الهايكو" تحمل في أصلها روحًا يابانية، فإن بعض النماذج العربية نجحت في استثمار جماليات هذا الشكل الشعري. ويمكن الاستشهاد بتجربة الشاعر عبدالله الأسمري، الذي قدّم ديوان "أناشيد مرتلة في رحاب الهايكو" بقوله: لم يكن هذا التحول في تجربته الشعرية هروبًا من شعر التفعيلة وما يتطلبه من ضبط دقيق للبحور والأوزان؛ فالأسمري سبق أن كتب في الشعر الحر، كما يظهر في دواوينه "حوراء" و"ما لم أقله للبنفسج"، وهو قادر على الاستمرار في هذا المسار، إلا أن اختياره الانخراط في تجربة الهايكو يعكس رغبة في التجديد والتوسع في أطر التعبير الإبداعي، سواء من حيث الشكل أو المضمون، مستفيدًا من مرونة اللغة وحدود النوع الأدبي، بهدف استكشاف آفاق جديدة للإبداع الشعري.

إعلان

"بين زهرة مقطوفة، وأخرى مهداة..  حب لا يوصف"

هذا النص للأسمري يتمتع بخصائص شعرية مكثفة تعكس روح الهايكو، حيث يتم التعبير عن المشاعر العميقة بكلمات قليلة، تاركًا مساحة واسعة للتأويل.

وعلى الرغم من أن النص قصير، فإنه يحتوي على بُعد سردي ضمني، حيث يمكن للقارئ أن يستشف حكاية حب ذات مراحل متباينة: من امتلاك إلى عطاء، ومن استحواذ إلى تحرر.

وهكذا، في زمنٍ يتسارع فيه كل شيء، تظل القصيدة -مهما تغيرت أشكالها- ملاذًا للروح الباحثة عن المعنى وسط ضجيج العالم الرقمي. وبين "الومضة الشعرية" و"الهايكو"، تتجلى قدرة الشعر على التأقلم، محتفظًا بجوهره العميق رغم تكثيفه في كلمات قليلة.. إنها ليست مجرد استجابة للعصر، بل هي استمرارٌ لروح الإبداع التي تجعل الكلمة -مهما صغرت- قادرةً على إشعال الدهشة في قلب القارئ.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان