شعار قسم مدونات

شتاء ألمانيا!

الكاتب: الشتاء ليس فصلًا، بل حكمة قاسية! كل شيء يتجمد، لكن التجمد نفسه هو الحياة (شترستوك)

كونيغسبورن، حيث يتردد الوجود بين الظل والنسيان، إذ يرقد الهدوء كغطاء على الأرض البافارية..

مشيتُ اليوم في شارع ضيق، أشجار الزيزفون العارية تحيط به كشهود صامتين على زمن لم أعد أفهمه.. الريح ككيان غير مرئي تحمل رائحة الخشب المحترق، وكأنها تذكرة بأن كل شيء يتلاشى حتى الدفء.

رذاذ المطر يهطل في شهر مارس/ آذار مع سطوع الشمس، ليس كحدث، بل كسؤال: أنحن مجرد قطرات تذوب في الأرض أم إننا شيء أكثر؟
توقفتُ أمام مكتبة المدينة، وعلى الرفّ كتاب بعنوان "Die Melancholie der späten Tage" (ملانخوليا الأيام المتأخرة).. لم أبتسم، بل تساءلتُ: الحزن هو مرآتنا أم نحن مرآة له؟

في كونيغسبورن، تلك المدينة الصغيرة التي تتنفس ببطء، أرى الوجود فيها ليس سوى صدى، الشوارع تحتفظ بنا.. لكن لماذا؟ هل نحن أكثر من آثار أقدام.. أكثر من أنفاس تتكثف في الهواء البارد؟

الشتاء هنا ليس فصلًا، بل حكمة قاسية!. كل شيء يتجمد، لكن التجمد نفسه هو الحياة في ألمانيا ككل.
الضوء الشاحب يخترق الغيوم كمحاولة يائسة للمعنى، والدخان يرتفع من بعض المداخن كأرواح تبحث عن مخرج.

في مقهى (Müller Cafe) أشرب قهوتي الصباحية صباح كل يوم سبت من الأسبوع، أحاول في هذا الوقت أن أنفرد بنفسي مع نفسي، أمسك قلمي كالمعتاد لأبوح بما لا أستطيع البوح به في العلن، حيث تكون السكينة مع رائحة القهوة موطن الأمان!

ربما لسنا سوى لحظة عابرة في نسيج لا نهائي هنا، أو ربما نحن النسيج نفسه، نُحاكُ ونُفك دون أن نعرف اليد التي تحرك الخيوط

لكن الكتابة بدت كعمل عبثي، الكلمات كما الزجاج المحطم تعكس الضوء لكنها لا تكتمل، خاصة عند كتابة الحقيقة، إذ تهرب الحروف من بين أصابعي كالماء، تتناثر على الصفحات لا كإثبات بل كاعتراف: أنا هنا، لكن أين "هنا"؟

إعلان

أنظر من خلال نافذة المقهى لأعيد ترتيب فِكَري، السماء رمادية كفكرة غير مكتملة، المطر توقف لكن الصمت ظل يهمس، لا دفء في الكوب بيدي ولا في لباسي الذي يغطيني، بل في الشعور نفسه.. الشعور الذي يقاوم النسيان بأني موجود، لكن لماذا؟ أيكون الجواب في الكتابة أم في السكون الذي يليها؟

في هذا الصمت أرى الزمن كخدعة، الساعات التي تمرّ ليست سوى أقنعة لشيء أعمق، شيء لا يمكن قياسه.. كونيغسبورن ببيوتها الجميلة، وشوارعها التي تبدو حديثة وكأنها تنتظر شيئًا لن يأتي، تُعلمني أن الحياة ليست في الحركة بل في التوقف!

لكن التوقف نفسه يحمل قلقًا: أنكون إذا توقفنا مثلما كنا في بلادنا الأصلية، أم إننا نتلاشى كالدخان الذي يذوب في السماء، مثلما تلاشى غيرنا من الأجيال التي سبقتنا بالقدوم إلى هنا.

فالأشجار هنا عارية، والجو مفتوح لكل شيء.. وأتساءل عن جوهر هذا العري، أهو فقدان أم تحرر؟ فالذي يسقط هنا يبقى ساقطًا كالأوراق التي سقطت من الشجر إذ لم تعد ملزمة بالشجرة، ولم تعد جزءًا من نظام الحياة هنا أيضًا.
ونحن.. أنحن أحرار في سقوطنا، أم إننا مجرد ضحايا لريح لا نملكها؟ القارئ الجيد لا يجيب، بل يفتح أبوابًا جديدة للغموض؛ فكل سؤال يولّد آخر، كما النور يولد الظل.

تنتهي آخر رشفة من القهوة، وأنهض من المقعد شامخًا رافع الرأس دائمًا، غير ملتفت لأحد، وكأنني أنا الوحيد هنا في المقهى.. خطواتي تترك أثرًا طفيفًا على الأرض الرطبة، ورائحة عطري أيضًا، لكن الأثر يزول كما يزول كل شيء هنا مع الوقت. كونيغسبورن تعلم ما أقصده، وتشهد على هذا الصراع الصامت بين حلم الذات والأنا، بين اللحظة الحالية والأبدية.

أعود إلى البيت حاملًا أسئلتي كحمل ثقيل وخفيف في آن واحد؛ فالكتابة لم تحررني لكنها جعلتني أرى!. أرى أنني لا أرى، وفي هذا العمى ربما يكمن النور.

إعلان

الليل يهبط الآن بطيئًا كحكم نهائي، أشعل شموعًا صغيرة وأراقب اللهب المتذبذب، الشموع لا تتكلم لكنها تحترق، وفي احتراقها أجد شيئًا يشبه الجواب.. جوابًا لا يمكنني كتابته لأنه يعيش فقط في اللحظة التي أراها.

السماء مغطاة بالليل، والشوارع فارغة الآن لكنها ليست ميتة، إنها تنتظر كما أنتظر… الخواطر تتسلل كأوجه رجل كهل؛ العيش والانتظار رجل، والوجود والتلاشي رجل آخر!. ربما كل شيء هو وجه واحد لعملة لا نعرف من رماها.

مدينة كونيغسبورن مثل كل المدن الألمانية في الشتاء، أرى فيها نفسي كما يرى كل مغترب نفسه في مدينته. ربما غدًا سأجد معنى، أو ربما الغد هو المعنى الذي أرفضه اليوم

أسمع صوت الريح، فالشتاء لم ينتهِ، يهمس ببرودة في الخارج كما تهمس أسئلتي في داخلي؛ إذ لا نهاية لهذا الحوار لأن النهاية نفسها سؤال.

أدركتُ أن الأسئلة لا تنتهي لأنها ليست أسئلة بحد ذاتها، بل أنفاس الوجود… الشمعة انطفأت، والشوارع غرقت في الليل، لكن شيئًا ما يبقى، هو شيء لا أستطيع تسميته لكنه يعيش في الفراغ بين الكلمات، بين الضوء والعتمة، ربما لسنا سوى لحظة عابرة في نسيج لا نهائي هنا، أو ربما نحن النسيج نفسه، نُحاكُ ونُفك دون أن نعرف اليد التي تحرك الخيوط.

أغلق النافذة، لا لأنني وجدتُ الجواب بل لأنني تعلمتُ أن أعيش مع السؤال!. ففي النهاية، مدينة كونيغسبورن مثل كل المدن الألمانية في الشتاء، أرى فيها نفسي كما يرى كل مغترب نفسه في مدينته.
ربما غدًا سأجد معنى، أو ربما الغد هو المعنى الذي أرفضه اليوم.. وللصيف القادم حديث آخر.
رفعت الأقلام وجفت الصحف.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان