ترامب يتراجع والصين تتقدّم: العالم يعيد رسم خرائط الثقة والتحالفات

(كومبو) يجمع بين الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، والرئيس الصيني شي جين بينغ
الكاتب: قرار إدارة ترامب بتعليق الرسوم الجمركية على معظم دول العالم -باستثناء الصين- لم يُهدئ الأسواق بل زاد من ارتباكها (وكالات)
  • قرارات مرتجلة من واشنطن تربك الأسواق وتُفقدها ثقة الحلفاء.. والصين ترسّخ زعامتها بصمت وذكاء إستراتيجي

"اعمل في صمت، ودع نجاحك يُحدث الضجيج".. حكمة صينية قديمة طبّقتها بكين بهدوء، بينما ضاعت واشنطن وسط الجعجعة

في وقتٍ تتعاظم فيه الأزمات وتضطرب الأسواق وتتصاعد المخاطر الجيوسياسية، لم يعد العالم يحتمل مزيدًا من العشوائية في القرارات الأميركية.

قرار إدارة ترامب بتعليق الرسوم الجمركية على معظم دول العالم -باستثناء الصين- لم يُهدئ الأسواق، بل زاد من ارتباكها. وبينما تتخبّط واشنطن في خطوات مرتجلة، تُحكم بكين سيطرتها بهدوء. فهل آن أوان الخروج من العباءة الأميركية قبل أن تُغلق النافذة نهائيًّا؟

إدارة مرتبكة.. وخطاب يميني فجّ

في ظل تصعيد التوتر مع الصين، صدرت تصريحات عن نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، عبّر فيها عن أن "الولايات المتحدة لا تحتاج قروضًا من الفلاحين الصينيين".

هذا التصريح لا يعكس فقط جهلًا فادحًا بحقائق الاقتصاد العالمي وتاريخ الصين الصناعي، بل ينطوي أيضًا على نزعة عنصرية متعالية، تفتقر لأدنى معايير اللياقة الدبلوماسية.

مثل هذه الخطابات تكشف انزياحًا خطيرًا في العقل السياسي الأميركي نحو تبنّي مفاهيم إقصائية تعادي الآخر، وتزرع الشكوك في جدية الولايات المتحدة كطرف يمكن الوثوق به في الشراكات طويلة الأمد.

الصين تتحرك برؤية متكاملة، عبر شراكات ممتدة في آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية، وبتكامل ذكي مع دول مثل روسيا والبرازيل وتركيا، وبتوظيف مبادرة الحزام والطريق لتعزيز نفوذها الناعم والاقتصادي دون صدام مباشر مع أحد

الصين: الفائز الإستراتيجي الأذكى

بينما تتخبط واشنطن في سياسات عقابية بلا خطة، تبدو الصين أكثر تماسكًا وهدوءًا، بل وتحول كل هجوم إلى فرصة. قرار بكين بوقف تصدير العناصر الأرضية النادرة إلى الولايات المتحدة هو ضربة موجعة لصناعات إستراتيجية أميركية، من تكنولوجيا الدفاع إلى السيارات الكهربائية.

الصين تتحرك برؤية متكاملة، عبر شراكات ممتدة في آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية، وبتكامل ذكي مع دول مثل روسيا والبرازيل وتركيا، وبتوظيف مبادرة الحزام والطريق؛ لتعزيز نفوذها الناعم والاقتصادي دون صدام مباشر مع أحد.

تآكل الثقة العالمية في أميركا

الصدمة الحقيقية التي تُفرزها هذه المرحلة ليست اقتصادية فقط، بل تتعلق بانهيار الثقة في الولايات المتحدة كشريك موثوق. من انسحابها المفاجئ من اتفاقيات، إلى فرض عقوبات متقلبة، إلى خوضها حروبًا بلا رؤية واضحة، باتت أميركا مصدر قلق للحلفاء قبل الخصوم.

إعلان

لقد أصبح من الواضح أن واشنطن تفتقر إلى إستراتيجية متماسكة. قراراتها الأخيرة، من رفع الرسوم الجمركية إلى تعليقها، ثم التلويح بعقوبات جديدة، كلها تتحرك بردود فعل لا بخطط مدروسة. هذا الغياب للإستراتيجية يضعف الاقتصاد الأميركي نفسه، ويقوّض هيبته الدولية.

إن التعاون مع دول مجموعة "البريكس" (الصين، روسيا، البرازيل، جنوب أفريقيا، وغيرها) يوفر فرصًا هائلة للنمو، خصوصًا في الصناعات المستقبلية، والتكنولوجيا، والتحول الرقمي، والطاقة الجديدة

شبح التباطؤ وأسعار النفط.. جرس إنذار للدول النفطية

بالتزامن مع هذا الارتباك الأميركي، تراجعت أسعار النفط بنحو 1%، وسط مخاوف حقيقية من تباطؤ اقتصادي عالمي وشيك. بالنسبة للدول العربية التي تعتمد على النفط والغاز كمصدر رئيسي لثرواتها، يشكل هذا الوضع خطرًا إستراتيجيًّا مزدوجًا: من جهة تراجع الإيرادات، ومن جهة أخرى عدم الاستفادة من الفوائض الحالية قبل أفول "عصر البترول".

إن غياب الرؤية طويلة المدى لدى بعض هذه الدول قد يؤدي إلى تآكل الفرصة التاريخية المتاحة لها الآن لتنويع اقتصاداتها، والدخول في شراكات حقيقية لإنتاج التكنولوجيا والمعادن النادرة والطاقة النظيفة.

تركيا والبريكس: تحالفات عقلانية للمستقبل

في مقابل ذلك، تبدو الشراكات مع دول مثل تركيا -الدولة القوية عسكريًّا والمتزنة سياسيًّا- خيارًا ذكيًّا للدول الباحثة عن تنمية مستقلة وآمنة. تركيا ليست قوة استعمارية، بل هي شريك يمتلك القدرة على حماية استثماراته في بيئات معقدة، كما هو الحال في أفريقيا وآسيا الوسطى.

كذلك، فإن التعاون مع دول مجموعة "البريكس" (الصين، روسيا، البرازيل، جنوب أفريقيا، وغيرها) يوفر فرصًا هائلة للنمو، خصوصًا في الصناعات المستقبلية، والتكنولوجيا، والتحول الرقمي، والطاقة الجديدة.

هذه الشراكات تمنح الدول العربية موقعًا مستقلًّا في نظام عالمي متعدد الأقطاب، وتقلل من الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة التي أصبحت مصدرًا للقلق بدلًا من الأمان.

ما يجري في واشنطن اليوم هو أكثر من أزمة اقتصادية.. إنه انهيار في الرؤية، وتراجع في الهيبة، واضطراب في السلوك السياسي

آن أوان إعادة التموضع

العالم يتغير، والرهان على الولايات المتحدة وحدها أصبح مكلفًا وغير مضمون النتائج. التوقيت الآن مثالي لإعادة التموضع، وتوجيه الفوائض المالية العربية نحو استثمارات إستراتيجية في قطاعات المستقبل، بالتعاون مع شركاء يحترمون السيادة ويقدمون منافع متبادلة.

الخروج الذكي من العباءة الأميركية لا يعني العداء، بل يعني التوازن.. إنه تحوّل من علاقة "الزبون" إلى علاقة "الشريك"، ومن التبعية إلى الاستقلال، ومن الاستهلاك إلى الإنتاج.

ما يجري في واشنطن اليوم هو أكثر من أزمة اقتصادية.. إنه انهيار في الرؤية، وتراجع في الهيبة، واضطراب في السلوك السياسي. أما في بكين وموسكو وأنقرة وساو باولو، فتُبنى الآن معالم نظام عالمي جديد أكثر تعددية، وأقل تبعية، وأكثر استجابة لحاجات الشعوب. ولعل الفرصة لا تزال قائمة، بشرط أن نملك الجرأة على إعادة التفكير، وإعادة التموضع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان