"إن واجبنا لا يكمن في أن نكون مع أو ضد، بقدر ما هو وضع الريشة على الجرح." ألبير لوندر.
لعل ما أفتخر به كثيرًا، هو ذاكرتي التي تأبى محو الماضي، بل تنغمس في طياته وتحاول استقراء التاريخ لفهم واقعنا المعاصر.
وأنا صغير، أتذكّر أن التاريخ الذي درسناه كان أكثر استيعابًا للحقائق من الذي يدرس حاليًا. وليس الأمر ضربًا من الصدفة، فالصدفة كما يقول فولتير، فيلسوف عصر الأنوار، ما هي إلا سبب مجهول لحتمية معروفة.
كنت أقضي فيها بعض أوقات شبابي مع مجموعة من الرفاق الذين تشبعوا بالسياسة في مرحلة عمرية يقضيها معظم من كان في سني في اللهو ومضيعة الوقت
وأنا في السادسة عشرة من عمري، لا تزال مخيلتي تختزل في أعماقها اللقاء التاريخي بين الراحل ياسر عرفات ووزير الخارجية الإسرائيلي شمعون بيريز للتوقيع على معاهدة سلام، قيل آنذاك بأنها تاريخية، وبموجبها سيتم الاعتراف بدولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.
يبدو أنني سأقرع باب السياسة الذي يرفضه الكثير. هذا الباب المحاط بسياج محصن ومقولب تحت مسمى عدم التطرق إلى الشأن الفلسطيني مخافة الانجرار إلى فخّ معاداة السامية. كيف ذاك وقد نشأت في مجتمع امتزج فيه الأمازيغ بالعرب، والمسلمون باليهود منذ السقوط المدوي للأندلس. وهأنذا أغوص في ذكريات كنت أقضي فيها بعض أوقات شبابي مع مجموعة من الرفاق الذين تشبعوا بالسياسة في مرحلة عمرية يقضيها معظم من كان في سني في اللهو ومضيعة الوقت.
وكنا نتخذ من المقاهي الشعبية مسرحًا لنا لنتدارس فيه الواقع الجيوسياسي الذي بدأ في التحول بشكل رهيب، وذلك على بُعد سنوات من إطلالة الألفية الثالثة علينا.
كان شكّنا آنذاك في نجاح مباحثات أوسلو في محله. كيف لا والواقع يقول إن أول قائد عربي سلك هذا المشوار كان هو محمد أنور السادات والذي تم اغتياله بعد سنتين من تطبيعه مع الدولة العبرية.
وازداد شكنا حينما تم اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين من طرف متطرف صهيوني واسمه إيجال عمير في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995. هذا الرجل الذي رفض فكرة قيام الدولة الفلسطينية. تلاه بأشهر اغتيال مهندس المتفجرات لدى حركة المقاومة الإسلامية حماس يحيى عياش في 5 يناير/ كانون الثاني 1996.
والواقع المر يقول إن الدولة الفلسطينية لن ترى الوجود دون توحيد الجهود بين كل الأطراف الفلسطينية المتنازعة، فالكثرة تغلب السّبُع، والاتحاد يشكل القوة. وحقيقة الأمر تقول أيضًا إنه لا بدّ من خروج الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي بمواقف أكثر شجاعة، بعيدًا عن الحسابات الدبلوماسية والمصالح الاقتصادية.
لم يكتفِ بغزو غزة التي لها نصيب تاريخي من اسمها (الغزو)، بل أتمّ حملته إلى عكا ويافا، وقد عاد خائبًا بسبب الطاعون والمعارك الدامية التي واجهته هناك
ولعل ما هو أمرّ في هذه القضية هو الواقع المأساوي لغزة منذ قرون. كيف لا وقد مر زهاء 226 سنة على اجتياح نابليون بونابارت لغزة في فبراير/ تشرين الثاني 1799.
لم يكن بعد حاكمًا لفرنسا، ولكن كان قائدًا عسكريًا لما سيعرف في التاريخ بالحملة الفرنسية على مصر وسوريا.
كان الضعف والوهن قد بدا على القيادة السياسية والعسكرية في مصر التي كانت تحت الحكم العثماني. في شتاء هذه السنة، تراءى لنفس نابليون أن يجتاح غزة " التي كانت تحت حكم أحمد باشا الجزار أو كما يسميه الفرنسيون Djezzar Pacha".
كانت رؤية الجنرال الفرنسي تكمن في أن من يتمكن من وضع يده على غزة، سيحكم العالم وذلك لأنها نقطة التقاء بين أفريقيا، آسيا وأوروبا.
ولم يكتفِ بغزو غزة التي لها نصيب تاريخي من اسمها (الغزو)، بل أتم حملته إلى عكا ويافا، وقد عاد خائبًا بسبب الطاعون والمعارك الدامية التي واجهته هناك.
وظل اسم هذا القطاع مرتبطًا بسلسلة من المعاناة والمحن التي كتبت لأهلها منذ الاتفاقيات السرية المعروفة اختصارًا بـ"سايكس بيكو"، مرورًا بنكبة 1948، ثم بواقع جديد بعد سيطرة الإسرائيليين على القدس وإنشائهم مستوطنات جديدة بكل من غزة والقدس والضفة الغربية بعد ما سمي في التاريخ بنكسة يونيو/ حزيران1967. هذه الحرب التي أفضت لتوسع كبير لإسرائيل، ضاعفت خلاله نسبة أراضيها إلى ثلاثة أضعاف ما أخذته بالقوة عام 1948.
غير أن جيلي من الشباب كبر مع المظاهرات المنددة بالعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، كان آخرها، قبل أن أختار العيش بأوروبا، تلك التي قامت في العديد من المدن المغربية؛ استنكارًا لمقتل الطفل محمد الدرة، والذي حاول والده حمايته إلى أن أصيب هو الآخر.
كان ذلك عند معبر نتساريم الذي يفصل شمال غزة عن جنوبها، وكأن التاريخ يعيد نفسه، في إصرار صهيوني على إعادة احتلال غزة، وتهجير سكانها قسرًا تباعًا لسيناء في مصر، والأردن.
وازداد الأمر مضاضة حينما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الخامس من فبراير/ شباط 2025 عزمه احتلال غزة تحت ذريعة تحويلها إلى ريفيرا الشرق الأوسط، وتهجير سكانها إلى مصر والأردن. وليس الأمر بجديد، فقد سبق لصهره أن تبنى نفس الأفكار حينما أقدم في ولاية ترامب الأولى على مخطط الشرق الأوسط الجديد أو ما سماه بخطة السلام للشرق الأوسط في فبراير/ شباط 2019.
كلا الرجلين مهووسان بالعقار والصفقات التي تحول الإنسان الفلسطيني لمجرد ورقة يراهن عليها، في ظل غياب تام للسلطة الفلسطينية، وعلى رأسها عباس أبو مازن الذي يبدو أنه لا يزال في سُباته القديم. وصدق الشاعر التونسي محمد الجلالي حينما قال في قصيدته المعنونة بـ: في دولة القانون:
سيكتب التاريخ في فصوله
بالصرخة المجنونة.. بالهلوسة
عن أمة معصوبة مغلوبة
وظلمة تلفها معسعسة
عن حاكم مخلد في حكمه
شرعية الدبابة.. مفترسة
وحوله عصابة تفننت
في نهبكم أموالكم.. مختلسة
والأمة العظيمة قد طبست:
"خذوا البلاد. نظفوا بالمكنسة"
قد زلزلت زلزالها.. وضيعت
أموالها.. فما لحظ البائسة!
…
إن حاكم لم يأتِ باختياركم
لم يرتحل إن ساورته الوسوسة
وظل في مكانه لم يستح
فإنه سيحكم بالعسعسة
سيخدم أسياده ويترك
بلاده كالخرقة المنجسة..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.