شعار قسم مدونات

القرآن والأسس المعرفية للإنسان

مصلى من الخشب والنايلون.. ملاذ أطفال غزة لحفظ القرآن وسط الركام (تقرير) غزة
النور في القرآن ليس مجرد فكرة مثالية، بل هو حضور إلهي يعيش في الكون والنفس والنص (الأناضول)

في أعماق الوجود، حيث تتلاشى الحدود بين الذات والكون، يبرز القرآن كنصٍّ يتجاوز كونه دليلًا معرفيًّا ليصبح صوتًا ينبع من اللامتناهي، يعيد تشكيل الإنسان ككائنٍ يحمل في جوهره سرّ الخلق والمعرفة. ليس القرآن مجرد كلام يُقرأ، بل هو حدث كوني يتحدى الزمن والمكان، دعوة للإنسان كي يغادر حدود المحدود ويطلّ على هاوية اللانهائي.

في هذا السياق، كيف يمكن لنصٍّ أن يؤسس لمعرفة تتجاوز العقل البشري؟ وكيف تتفاعل هذه الرؤية مع أصداء الفكر الغربي من أفلاطون إلى نيتشه وهيدغر؟

التفاعل بين الوحي والعقل يشكل أساسًا معرفيًّا يتحدى الفكر الغربي في نزعته لفصل الذات عن الكون، ويفتح أمام الإنسان أفقًا يتجاوز الحدود التي رسمها ديكارت

الوحي كانفجار معرفي وصدى ديكارت

يبدأ القرآن بـ {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (سورة العلق:1)، وهي ليست مجرد دعوة للقراءة، بل هو انفجار يهدم جدران المعرفة التقليدية. هنا، لا يُطلب من الإنسان أن يعرف العالم من خلال حواسه أو عقله وحده، بل أن يبدأ من نقطة متعالية -الخالق- تربط بين الوجود والمعرفة في نسيج واحد.

هذا الانفجار يتجاوز حدود التجربة الحسية التي حصرها ديكارت في "أنا أفكر إذًا أنا موجود"، حيث جعل الذات العاقلة مركز المعرفة. لكن القرآن يقلب هذا المنظور: لستَ موجودًا لأنك تفكر، بل لأنك مخلوق، والمعرفة ليست ملكًا لعقلك، بل هي هبة تُمنح عبر الوحي، لتتجاوز حدود ذاتك.

في حين سعى ديكارت إلى بناء يقين معرفي على أساس العقل المستقل، يرى القرآن أن اليقين الحقيقي يأتي من الاتصال بالمطلق، لكنه لا يلغي العقل، بل يجعله شريكًا في رحلة أعمق. هذا التفاعل بين الوحي والعقل يشكل أساسًا معرفيًّا يتحدى الفكر الغربي في نزعته لفصل الذات عن الكون، ويفتح أمام الإنسان أفقًا يتجاوز الحدود التي رسمها ديكارت.

إعلان

الكون كآية وهيدغر في المواجهة

يُقدم القرآن الكون كنصٍّ موازٍ للوحي، حيث {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت} (سورة الغاشية: 17) ليست دعوة للملاحظة العلمية، بل استدعاء للإنسان كي يصبح شاهدًا على فعل الخلق. الكون هنا ليس مجرد مادة، بل آية تحمل حضورًا إلهيًّا، والإنسان ليس مراقبًا خارجيًّا، بل جزء من هذا الحضور.

هذا التصور يتقاطع مع هيدغر في بحثه عن "الكينونة" (Being)، حيث رأى أن الوجود ليس مجرد مجموعة أشياء، بل تجربة تتجاوز التصنيفات العقلية.

لكن، بينما يرى هيدغر أن السؤال عن الكينونة ينبع من الإنسان نفسه في مواجهة العدم، يقدم القرآن إجابة مغايرة: الكون ليس فراغًا وجوديًّا، بل هو دليل على خالق، والإنسان ليس تائهًا فيه، بل هو شاهدٌ ومشهود في آن واحد. هذا التداخل يجعل المعرفة القرآنية ليست فعلًا نظريًّا، بل تجربة كونية تُعاش، تتجاوز ثنائية الذات والموضوع التي شغلت الفكر الغربي من كانط إلى هوسرل.

الغيب ونيتشه: المطلق مقابل الفراغ

يفتح القرآن أفق الغيب كبُعد لا نهائي، حيث {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلّا هو} (سورة الأنعام: 59) تشير إلى ما هو خارج الإدراك البشري، لكنه ليس غيابًا، بل هو حضور متعالٍ يتحدى الإنسان للغوص في اللامُسمى.

هذا الغيب يضع الإنسان في حالة من التوتر الوجودي: مدعو للمعرفة، لكنه يواجه حدودًا لا يمكن عبورها. هنا، يمكننا سماع صدى نيتشه الذي أعلن "موت الإله"، محاولًا تحرير الإنسان من أي سلطة متعالية، لكنه تركه في فراغ يواجه العدم.

القرآن يرفض هذا الفراغ: الغيب ليس موتًا للمطلق، بل هو حياة المطلق ذاته، ودعوة للإنسان كي يعيش في علاقة معه. بينما يرى نيتشه أن الإنسان يخلق قيمه في غياب الإله، يبين القرآن أن القيم والمعرفة تنبعان من اتصال بالغيب، لكن هذا الاتصال لا يُفرض، بل يُكتسب عبر التأمل والشهود. هكذا، يصبح الغيب ليس حدًّا للمعرفة، بل محفزًا لرحلة لا نهائية، تتجاوز ما تخيله نيتشه في "الإنسان الأعلى".

النور في القرآن ليس مجرد فكرة مثالية، بل هو حضور إلهي يعيش في الكون والنفس والنص. الإنسان هنا ليس سجينًا يبحث عن الحرية، بل كائنٌ مدعو ليكون شاهدًا على اللامرئي، في رحلة لا تنتهي نحو ما لا يمكن أن يُحاط به، لكنه يمكن أن يُعاش

النفس كهاوية وفرويد في الحوار

إعلان

في عمق الرؤية القرآنية، تظهر النفس كفضاء لا نهائي!. {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (سورة الذاريات: 21)، ليست دعوة سطحية، بل إعلان أن الإنسان هو كونٌ مصغر يحمل أسرار الخلق.

النفس هنا ليست مجرد وعي، بل هاوية تتجاوز الحدود التي رسمها فرويد للاوعي كمخزن للغرائز. في حين رأى فرويد أن الإنسان محكوم بدوافع خفية، يقدم القرآن النفس كبوابة للمتعالي، حيث {الروح من أمر ربي} (سورة الإسراء: 85) تشير إلى سرٍّ لا نهائي يجعل الإنسان لغزًا حتى لنفسه.

هذا التصور يحاور فرويد ويتجاوزه: النفس ليست مجرد ساحة صراع بين الـ"أنا" والـ"هو"، بل هي مرآة للحقيقة الإلهية، فضاء معرفي يتطلب غوصًا لا نهائيًّا. المعرفة هنا تصبح رحلة مزدوجة إلى الكون الخارجي وإلى النفس الداخلية، في حركة تتجاوز التحليل النفسي إلى تجربة وجودية شاملة.

الخاتمة: الإنسان بين أفلاطون واللامتناهي القرآني

في النهاية، يقدم القرآن الإنسانَ كصوتٍ يتردد فيه صدى اللامتناهي، ليس كمتلقٍّ سلبي للوحي، بل كمشارك في تجربة كونية تربطه بالمطلق. هذا التصور يتقاطع مع أفلاطون في رؤيته للمعرفة كخروج من الكهف نحو النور، لكنه يتجاوزه: النور في القرآن ليس مجرد فكرة مثالية، بل هو حضور إلهي يعيش في الكون والنفس والنص. الإنسان هنا ليس سجينًا يبحث عن الحرية، بل كائنٌ مدعو ليكون شاهدًا على اللامرئي، في رحلة لا تنتهي نحو ما لا يمكن أن يُحاط به، لكنه يمكن أن يُعاش.

بين ديكارت ونيتشه وهيدغر، يقف القرآن كنصٍّ يعيد تعريف المعرفة لا كامتلاك، بل كشهودٍ لا نهائي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان