إن أخطر ما نعانيه اليوم، هو تسلل أفكار وروايات هادمة للنهوض وللوعي الجمعي بطريقة تلقائية إلى أقلام الكتّاب وأفواههم، وإلى عقولهم اللاواعية؛ نتيجة تشبع المحيط بها، وبثها في مناخ فكري وإدراكي متغير بتغير أحداث المنطقة وتسارعها، ليتصحر مناخها بالنهاية، تارة لعرقلة الإنجاز الجمعي، وتارة لتطرف الرفض للآخر، وانسياقًا بصورة أو بأخرى للجندية في صفوف الحرب النفسية والإعلامية التي تُخاض ضدنا، لتكون عدوًا مع العدو، وخصمًا فاجرًا لا يفهم إلا لغته وخياره.
كثيرًا ما نجد نظرات أحادية الجانب قاصرة أو تتعمد القصور، تخلق فجوة مأساوية بين أصحابها بكونهم حاملي "مشروع" وشرعية، وشعوبهم ومجتمعاتهم، وتُفقدنا التوافق بين عناصر المجتمع الواحد
بات الفلسطيني اليوم أمام هذه الحالة لا يفهم معنى للمواجهة، ولا يقوى على ابتكار وسائلها وأدواتها بطريقة حداثية فاعلة، تمكّنه من التشبث بسرديته وروايته على الأقل، عاجزًا لا يعلم له حالًا سوى حال التقبل والتكيف أمام آلات الغزو الجديدة، وواقعها الحديث، وصورتها التي بدأت تُرسم من خلال التغيرات الجارية فعليًا على الأرض بصورتها العسكرية، وبُعدها السياسي، ليس بيده ووسعه إلا الصمود والثبات والتحمل، وخلق مساحة ضئيلة من المكان، يجد نفسه بها، ويحاول من خلالها مرارًا التشبث بما بقي عنده من كيان ووجود.
أمام هذه الحالة يقف بكل قدراته عاجزًا، فحقد الآلة الصهيونية وغطرستها ووسائلها، بخلقها طبقة مجتمعية محلية من ذاتنا، تتعاطى وتقبل بها بمنطق اللاخيار والوجود لمجرد البقاء، ذلك جعل كل الوسائل والحلول غير ممكنة، بل ومستحيلة الآفاق والرؤى؛ فلا أفق يُصنع، ولا رؤية تُنير هذا الظلام غير رؤية تلك الطبقة التي تنصهر مع المجتمع، ولا تعلم كيف تجاريه وتفهمه، بل تزدريه وتقمعه، وتخوض به الأزمات والنكسات واحدة تلو الأخرى.
نحاول مرارًا إيجاد تحليل منطقي للواقع، لا ينجرف مع التعصبات والأفكار المسبقة الحزبية أو التنظيمية منها، والتشويه المتعمد للحقائق والأحداث.
لكننا كثيرًا ما نجد نظرات أحادية الجانب قاصرة أو تتعمد القصور، تخلق فجوة مأساوية بين أصحابها بكونهم حاملي "مشروع" وشرعية، وشعوبهم ومجتمعاتهم، وتُفقدنا التوافق بين عناصر المجتمع الواحد والثقافة الواحدة، بين "النخب" المثقفة والحاكمة، وبين الجمهور والنخب الأخرى.
وفي هذا السياق الشائك، والواقع الغامض، نفقد قوتنا الذاتية التي نكتسبها من وحدة صفوفنا، وتعدد خياراتنا وثبات تطلعاتنا للمرحلة الخطرة القادمة ومتطلباتها، ونصيبها من الوعي والإدراك وحكمة التعامل معها، ونقف مستسلمين لخيار لم نخضه معًا، ولا كان نتاجًا لتعبير جامع بين الأطياف والمكونات التي تمثلنا كفلسطينيين أولًا، وكشعب محتل منذ ما يقارب الثمانين عامًا وأكثر ثانيًا.
ناهيك عن هويتنا التي تتمزق بمزيد من اللامبالاة والانحدارية التي سنلمس آثارها في القريب، وسياسة شراء الوقت الذي يضيع على حساب هذه الهوية ومن رصيدها.
ما يعيشه الفلسطينيون اليوم ليس مجرد أزمة أدوات، بل هي أزمة رؤية وإستراتيجية تهدد المسير التحرري، وتضعه أمام مفترق طرق خطير
نرفض جميعًا العشوائية والتشتت في أساليب المواجهة والمقاومة، بصورتها الناعمة السياسية والشعبية الوجودية، لكن ليس ثمة مسار يقنع ويفضي لشيء من الحل بنقاش فلسطيني، يُعيد صياغة ورؤية الإستراتيجيات الواضحة للمواجهة، ويعيد تقييم الحالة الوطنية والإسلامية وأولوياتها بما يحقق الوحدة والتركيز على التعامل مع هذه التحديات والوقائع، التي بدأت بتغيير فعلي على الأرض.. فكيف لك أن تنكر على الآخرين صنيعهم، وليس لديك من القول ما يلغي مشروعهم؟!
وقد وصف الراحل الأسير وليد الدقة هذا الحال، فقال: "إن الأدوات والمفاهيم الفلسطينية في التحرر تختلف عن الواقع، فغدت بحد ذاتها أدواتٍ للقمع والتعذيب. وهي تقودنا رغم التضحيات المرة تلو الأخرى إلى طريق مسدود، إننا أشبه بمن يواجه حربًا نووية بسيف".
فإلى متى سيبقى الطريق مسدودًا؟ وهل نبالغ إذا عدلنا على النص اليوم بأن المفاهيم والأدوات الفلسطينية في التحرر تتماهى مع الواقع؟
إن ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة أدوات، بل هي أزمة رؤية وإستراتيجية تهدد المسير التحرري، وتضعه أمام مفترق طرق خطير.
فبين انحسار أساليب المواجهة التقليدية، وتآكل الخطاب الوطني بفعل الانقسام والتشرذم، نجد أنفسنا أمام واقع يفرض إعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني، وفق رؤية تستوعب المتغيرات، وتعيد الاعتبار لمفهوم المواجهة بأدوات حداثية أكثر فاعلية.
إن تجاوز هذه الأزمة لا يكون بردود الفعل المتفرقة، أو الاكتفاء بسياسة الصمود السلبي، بل بوضع إستراتيجية وطنية جامعة تُخرجنا من دائرة العبث السياسي والتجاذبات الفئوية، وتعيد توحيد الصفوف على قاعدة واضحة لمواجهة الاحتلال ومخططاته.
فإما أن نعيد صياغة رؤيتنا وأدواتنا، وإما أن نبقى أسرى واقع يُراد لنا أن نقبل به، دون قدرة على تغييره أو مقاومته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.