على مدى عقود، كان الجدل حول التكنولوجيا النووية يتركز حول: من يتحكم فيها؟ من يُسمح له بتطويرها؟ وما هي شروط استخدامها؟ لطالما اعتمدت الدول الصناعية على الطاقة النووية كمكون رئيسي في شبكاتها الكهربائية.
ومع ذلك، واجهت العديد من دول الجنوب العالمي عقبات تنظيمية، وضغوطًا سياسية، وقيودًا مالية حالت دون اتباع المسار نفسه. وغالبًا ما تُصوَّر الطاقة النووية على أنها خطيرة جدًا، أو مكلفة للغاية، أو معقدة إلى حد لا يسمح للدول النامية بإدارتها بمسؤولية. لكن باكستان تتحدى هذا السرد.
وفقًا للمسح الاقتصادي الباكستاني لعام 2023-2024، تمتلك باكستان ستة مفاعلات نووية تولد 18.19٪ من إجمالي الكهرباء في البلاد، مما يجعل برنامجها للطاقة النووية المدنية واحدًا من أنجح البرامج في العالم النامي.
وقد تحقق هذا النجاح دون الدعم غير المشروط الذي تحظى به العديد من الدول الغربية من حلفائها. ويؤكد التعاون بين لجنة الطاقة الذرية الباكستانية (PAEC) والمؤسسة الوطنية الصينية للطاقة النووية (CNNC)، من خلال صب الخرسانة لأول مرة في مفاعل تشاشما-5، على التوسع المطرد للطاقة النووية في البلاد.
وهذا إنجاز آخر لباكستان، التي غالبًا ما يتم تجاهلها في المناقشات العالمية حول أمن الطاقة والقدرة على التكيف مع تغير المناخ.
مع وجود 19 مستشفى لعلاج السرطان بالطاقة الذرية تديرها لجنة الطاقة الذرية الباكستانية، تُعد باكستان واحدة من الدول النامية القليلة التي تمكنت من بناء بنية تحتية نووية طبية ذاتية الاكتفاء
إشادة دولية بالتقدم النووي الباكستاني
خلال زيارته الأخيرة إلى باكستان، أشاد المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)، رافائيل غروسي، بالتقدم الذي أحرزته البلاد، ووصف برنامجها للطاقة النووية بأنه "واحد من أنجح البرامج في العالم".
ولكن إنجازات باكستان النووية تتجاوز إنتاج الطاقة الكهربائية. ففي ندوة نظمها معهد الرؤية الإستراتيجية (SVI) في الجامعة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا (NUST)، أوضح غروسي كيف تساهم العلوم النووية في تحسين الزراعة، والأمن الغذائي، والرعاية الصحية في باكستان.
الطاقة النووية في دعم الزراعة والأمن الغذائي
بفضل مبادرات مدعومة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يتم استخدام التكنولوجيا النووية في تطوير محاصيل أكثر مقاومة، وتحسين خصوبة التربة، ومكافحة سوء التغذية. والنتائج ملموسة:
- استفادت باكستان من العلوم النووية لزيادة إنتاج القمح بشكل كبير.
- تم نشر تقنيات الإشعاع النووي لمنع تلف المحاصيل الأساسية بعد الحصاد.
- تساعد برامج أبحاث التربة في تحسين احتفاظ المياه في المناطق القاحلة، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل التحديات الزراعية الناجمة عن تغير المناخ.
الطاقة النووية في الطب: تحسين علاج السرطان
تلعب باكستان أيضًا دورًا بارزًا في العلوم النووية الطبية. ففي منشأة INMOL في لاهور، افتتح غروسي مختبرات جديدة لإنتاج الأدوية الإشعاعية ضمن مبادرة "أشعة الأمل" (RaysOfHope)، التي تهدف إلى توسيع نطاق علاج السرطان في الدول النامية.
مع وجود 19 مستشفى لعلاج السرطان بالطاقة الذرية تديرها لجنة الطاقة الذرية الباكستانية، تُعد باكستان واحدة من الدول النامية القليلة التي تمكنت من بناء بنية تحتية نووية طبية ذاتية الاكتفاء.
والنتيجة أن هذه المستشفيات تعالج أكثر من مليون مريض سنويًا وتوفر علاجات السرطان بأسعار معقولة باستخدام نظائر مشعة منتجة محليًا.
على عكس العديد من الدول التي تعتمد على الخبرات الخارجية، نجحت باكستان في تطوير خبرات محلية في مجالات تصنيع الوقود، وصيانة المفاعلات، وتنظيم السلامة، مما قلل من اعتمادها على المساعدة التقنية الأجنبية
الطاقة النووية بين المخاوف الأمنية والحقائق العلمية
رغم هذا التقدم، لا تزال الطاقة النووية قضية حساسة سياسيًا بسبب الحوادث النووية السابقة مثل تشيرنوبل وفوكوشيما وثري مايل آيلاند، والتي أثرت بشدة على الرأي العام العالمي.
لكن هذه المخاوف تتجاهل التقدم التكنولوجي الذي جعل المفاعلات الحديثة أكثر أمانًا. تحت مراقبة صارمة للسلامة النووية، لم تشهد باكستان أي حادث نووي كبير، وتلتزم ببروتوكولات السلامة الصارمة التي وضعتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وأكد غروسي بنفسه أن باكستان "تضع معيارًا عالميًا رفيعًا في مجال السلامة النووية"، وتعد مثالًا على الإدارة المسؤولة للطاقة النووية.
التحدي الأكبر: الوصول إلى التكنولوجيا النووية
أكثر من 30 دولة في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا تفكر أو تخطط لإنشاء برامج نووية، لكنها تواجه صعوبات بسبب:
- قيود التمويل.
- الضغوط الجيوسياسية.
- الافتقار إلى الاستقلالية التكنولوجية.
على سبيل المثال:
- تسعى السعودية لبناء 17 جيجاواط من الطاقة النووية.
- تستهدف إندونيسيا تشغيل أول مفاعل لها بحلول عام 2032.
- تقوم كينيا وغانا ونيجيريا بدراسات جدوى.
- تحاول البرازيل إعادة تشغيل محطة Angra-3 النووية.
- تستثمر الأرجنتين في المفاعلات المعيارية الصغيرة (SMRs).
- تعيد المكسيك النظر في الطاقة النووية لتقليل اعتمادها على واردات الغاز.
لكن العديد من الدول النامية لا تزال تعتمد على سلاسل التوريد الغربية، والتي تفرض قيودًا صارمة على الوصول إلى المفاعلات والوقود النووي والتدريب. في المقابل، روسيا والصين تقدمان تمويلًا ميسرًا ونقلًا للتكنولوجيا.
على سبيل المثال، تبني روسيا محطات في بنغلاديش ومصر، بينما تساعد الصين في توسيع القدرات النووية لباكستان.
الطاقة النووية ليست مجرد مصدر للكهرباء، بل هي أداة للسيادة الاقتصادية والتقدم العلمي والقدرة على التكيف مع تغير المناخ
نموذج باكستان في الاستقلال النووي
لكن باكستان اتبعت نهجًا مختلفًا، حيث طورت قطاعًا نوويًا مدنيًا متقدمًا دون الاعتماد على التحالفات العالمية المتقلبة. وأكد الدكتور رجا علي رضا أنور، رئيس لجنة الطاقة الذرية الباكستانية، أن بلاده ملتزمة بالاعتماد على الذات في المجال النووي، مما سمح لها بالتوسع بوتيرة أسرع من معظم الدول النامية.
الأمر لا يقتصر على بناء المفاعلات، بل إن باكستان طورت أيضًا:
- إطارًا تنظيميًا نوويًا مستقلًا.
- قوى عاملة ماهرة.
- بنية تحتية تدعم التوسع النووي السريع.
وعلى عكس العديد من الدول التي تعتمد على الخبرات الخارجية، نجحت باكستان في تطوير خبرات محلية في مجالات تصنيع الوقود، وصيانة المفاعلات، وتنظيم السلامة، مما قلل من اعتمادها على المساعدة التقنية الأجنبية. ألا يمكن لهذا النموذج أن يكون قدوة للدول الساعية لتحقيق الاستقلال التكنولوجي؟
مستقبل الطاقة النووية: السيادة الاقتصادية والتقدم العلمي
الطاقة النووية ليست مجرد مصدر للكهرباء، بل هي أداة للسيادة الاقتصادية والتقدم العلمي والقدرة على التكيف مع تغير المناخ. ورغم ذلك، لا تزال المحادثات العالمية تدور حول مخاوف قديمة وانحيازات جيوسياسية، تصور الطاقة النووية كامتياز للنخبة بدلًا من كونها حقًا عالميًا.
لطالما اعتُبرت التكنولوجيا النووية في دول الجنوب العالمي علمًا محظورًا أو ترفًا بعيد المنال. لكن باكستان تقدم سردًا مختلفًا تمامًا. فقد أثبتت أن الطاقة النووية ليست حكرًا على الدول الغنية، بل يمكن استخدامها لحل مشكلات أساسية مثل الرعاية الصحية والأمن الغذائي والاستقلال الاقتصادي.
لم يعد السؤال: "هل يمكن لدول الجنوب العالمي تطوير الطاقة النووية؟" بل أصبح: "لماذا لم تحذُ المزيد من الدول النامية حذو باكستان بعد؟"
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.