رمضان هو الشهر الذي تبتهج له الأنفس وتسمو به الأرواح، نستقبله بفرحٍ وترقب منذ بداية شعبان، فنراه يزين أيامنا ويضفي عليها روحانية خاصة، ولا يفقد بريقه مع مرور الأيام؛ فهو الشهر الذي لا يتغير طعمه في قلوبنا، بل يزداد تألقًا وإشراقًا.
نبدأ طقوسه منذ لحظة الإعلان عن حلوله، ونعيش أجواءه الروحانية بصلاة التراويح بعد العشاء، ونستهل ساعات السَّحَر بتدبر آيات سورة البقرة، مُعلنين بذلك بداية رحلة تأمل، وتدبر في كتاب الله الحكيم.
لكن، وبمرور الزمن، تطورت أساليب الحياة بشكل تدريجي على مدار العقود الثلاثة الماضية، وتسارع هذا التطور بشكل هائل خلال السنوات العشر الأخيرة، لتظهر ظاهرة مزعجة من التلاعب والاستغلال التجاري لهذا الشهر الفضيل.
إن النهج التجاري في رمضان لا يهدف فقط إلى زيادة المبيعات، بل يسعى أيضًا إلى إبقاء المستهلك في دائرة الإنفاق المستمر، ما يسرق منه أوقاته الثمينة التي كان من المفترض أن يستثمرها في العبادة والتقرب إلى الله
فلم يعد رمضان لكثير من الناس مجرد شهر للعبادة والتأمل، بل أصبح موسمًا تستغله الشركات لجذب المستهلكين، فتتحول وجهتهم من المساجد والخلوات الروحانية إلى المتاجر ومراكز التسوق.
التلاعب النفسي والاستغلال التسويقي
قد يظن البعض أنَّ قرارات الشراء تخضع بالكامل لاختيارات المستهلك، إلا أن هذا الاعتقاد ليس دقيقًا تمامًا؛ فالواقع يشير إلى أننا نتأثر بضغطٍ نفسي مستمر من خلال موجات التسويق والإعلانات التي تستهدفنا خلال المواسم المختلفة، سواء كان ذلك في رمضان، أم الأعياد الدينية، أو المناسبات الوطنية وغيرها.
هذا التأثير يمكن أن يكون مباشرًا، من خلال الرسائل الإعلانية والعروض الترويجية، أو غير مباشر عبر الإعلانات المتكررة التي تغزو الشوارع والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، خاصةً في أوقات الذروة.
تعتمد هذه الحملات التسويقية على إستراتيجيات نفسية دقيقة، تهدف إلى إقناع المستهلك بحاجته الملحَّة لاقتناء منتجات قد لا يكون بحاجة حقيقية إليها.
ومع تصاعد هذه الحملة الإعلانية، يجد المستهلك نفسه ينتقل من منتَج إلى آخر، سواء في المتاجر التقليدية أو عبر منصات التسوق الإلكتروني، حيث تُقدَّم له المنتجات بطريقة مغرية، تُشعره وكأنه أمام فرصة لا تعوَّض.
وفي رمضان، يتخذ هذا الاستغلال أشكالًا متعددة، مثل العروض الترويجية في بداية الشهر، والتخفيضات الكبرى في منتصفه، وصولًا إلى العروض الهستيرية في العشر الأواخر تحت اسم "خصومات العيد".
هذا النهج التجاري لا يهدف فقط إلى زيادة المبيعات، بل يسعى أيضًا إلى إبقاء المستهلك في دائرة الإنفاق المستمر، ما يسرق منه أوقاته الثمينة التي كان من المفترض أن يستثمرها في العبادة والتقرب إلى الله.
كيف نحمي أنفسنا وروحانيتنا في رمضان؟
لحماية أنفسنا من هذا الاستغلال التجاري، علينا أولًا أن ندرك أهمية رمضان وقيمته، فهو شهر محدود الأيام، وكل لحظة فيه كنز لا يعوَّض.
وفي ظل الهجمة الإعلانية المستمرة، يجب أن نعي أننا جميعًا معرضون لهذا التلاعب، وعلينا اتخاذ خطوات واعية للحفاظ على أجوائنا الروحانية.
إن إدراك قيمة الوقت في رمضان، كما ندرك أوقات الصلوات والأذكار، هو الخطوة الأولى نحو استغلاله بالشكل الأمثل؛ فالتنظيم والالتزام هما السبيلان لمنع الاستغلال التجاري من التسرب إلى حياتنا
إن استغلال رمضان ينبغي أن يكون في صالحنا، لا علينا؛ وذلك يكون عبر تنظيم أوقاتنا بشكل دقيق، بحيث نخصص الوقت الكافي للصلاة المفروضة، وصلاة التراويح والتهجد قدر المستطاع، وقراءة القرآن الكريم بانتظام، إضافةً إلى الإكثار من الذكر والتسبيح؛ فالتخطيط الجيد يساعدنا في تحقيق أقصى استفادة من الشهر الكريم.
لكن، هل يكفي ذلك لحمايتنا من التأثيرات التجارية المحيطة بنا؟ بالتأكيد لا، فنحن جميعًا معرضون لهذا التشتيت الذي أصبح سمةً من سمات رمضان الحديث، لذا يجب علينا مواجهته بوعي وإدراك، وهذا الإدراك يبدأ بفهم الأساليب التسويقية التي تمارَس علينا، ومن ثم التحكم في قراراتنا الاستهلاكية، بحيث لا ننساق وراء العروض الوهمية التي تهدف إلى إضاعة أوقاتنا وأموالنا فيما لا يفيد.
الخاتمة
رمضان شهرٌ خصَّصه الله تعالى للعبادة، ومنحنا أحد عشر شهرًا آخر لأمور دنيانا، فكيف لنا أن نضيِّع هذا الشهر الثمين في اللهو والشراء غير الضروري؟
إن إدراك قيمة الوقت في رمضان، كما ندرك أوقات الصلوات والأذكار، هو الخطوة الأولى نحو استغلاله بالشكل الأمثل؛ فالتنظيم والالتزام هما السبيلان لمنع الاستغلال التجاري من التسرب إلى حياتنا، حيث إن الشخص المنهمك في عبادته والمشغول بطاعته، لا يجد وقتًا للانشغال بما هو أدنى.
وهنا تكمن النقطة الجوهرية التي أود التأكيد عليها: رمضان كله طاعة، لكنه يجب ألا يكون طاعةً مبعثرةً غير منظمة، لأن العشوائية تعني الفوضى، والفوضى تخلق الفراغ، والفراغ يجعلنا عرضةً لأي تأثيرٍ خارجي، سواء كان تسويقًا تجاريًّا أم غيره من الملهيات.
لذا، علينا أن نضع لكل عبادةٍ وقتها، ونمنح لكل لحظةٍ قيمتها، حتى نجني الفائدة الحقيقية من رمضان، بعيدًا عن الاستغلال التجاري والمشتتات، التي يمكننا تأجيلها إلى ما بعد الشهر الفضيل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.