المتابع لمجريات الأحداث في سوريا منذ نجاح ثورتها المباركة يدرك تمامًا أن إيران، بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، فقدت أهم قواعدها العسكرية في المنطقة، والتي كانت متواجدة في سوريا؛ حيث اضطرت إيران إلى مغادرة سوريا التي استثمرت فيها على مدى 13 عامًا، خاصة في المجال العسكري.
وقد نشرت وسائل إعلام إيرانية منذ بدء عمليات "ردع العدوان"، وحتى تحرير دمشق، والأيام التي تلت ذلك، تقارير شديدة اللهجة ضد تركيا، كما قام المرشد الأعلى الإيراني "آية الله خامنئي" بتوجيه اتهامات ضمنية لتركيا دون ذكر اسمها صراحة، وأثارت تلك التصريحات تساؤلات حول مستقبل العلاقات التركية- الإيرانية في المستقبل القريب، وكذلك البعيد، خاصة بعد تراجع نفوذ المحور الشيعي في المنطقة لصالح المحور السني، وهو الأمر الذي من شأنه أن يغير حجم المعادلة الجيوسياسية للمنطقة بأكملها.
تنافس قديم أزلي
لطالما شهدت العلاقات بين تركيا وإيران تقلبات منذ أواخر القرن الخامس عشر وحتى اليوم؛ فمنذ عام 1470 كانت الدولتان منافستين جديتين على النفوذ الإقليمي، هذه المنافسة هدأت تارة، واحتدت تارة أخرى، ويعكس التاريخ الطويل للعلاقات التركية- الإيرانية إشارات تدل على الكيفية التي قد تتشكل بها العلاقات بين البلدين بعد سقوط نظام الأسد.
يبدو أن التغيير في سوريا، أحدث هزة عنيفة في توازن العلاقات بين تركيا وإيران؛ إذ ترى إيران أن دعم تركيا إسقاط الأسد هو بمنزلة هجوم يستهدف سياستها الإقليمية
وتشير التطورات إلى أن إيران فقدت مجال نفوذها في سوريا، وبالنظر إلى تراجع قوة حزب الله بعد الخسائر التي تكبدها في الحرب مع إسرائيل وتقلص تأثيره، يمكن القول إن نفوذ إيران قد يضعف أيضًا في العراق واليمن، حيث كانت طهران تتمتع بتأثير كبير في كلتا الدولتين، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعيد اشتعال حجم التنافس بين كل من تركيا وإيران مجددًا في ظل التغيرات الإقليمية الكبيرة، التي مرت بها المنطقة خلال الأشهر الماضية.
تلميحات خامنئي
تبادل المسؤولون الإيرانيون والأتراك خلال الأيام الماضية الانتقادات، من دون أن يأتي أحدهم مباشرةً على ذكر الآخر، وعلى رأس هؤلاء كان المرشد الأعلى الإيراني "آية الله خامنئي"، الذي حمّل في أول كلمة له بعد سقوط الأسد الولايات المتحدة وإسرائيل المسؤولية الرئيسية عما جرى في سوريا.
ومن دون أن يأتي على ذكر تركيا، انتقد خامنئي دورها الذي وصفه بـ"السافر" في الإطاحة بالنظام السوري.
حتى إن هذه الانتقادات غير المباشرة لتركيا، نُشرت أيضًا في منشور باللغة التركية عبر حسابات خامنئي في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث جاء فيه: "إن حكومة مجاورة لسوريا اضطلعت بدورٍ سافر في التطورات السورية، وهي تفعل الشيء ذاته في الوقت الحاضر، بيد أن مراكز التآمر وغرفة القيادة الرئيسية تقع في أميركا والكيان الصهيوني، لدينا أدلة لا تدع مجالًا للشك في هذا الخصوص"، وهي التصريحات التي تُظهر بجلاء حجم التذمر الإيراني الواضح إزاء السياسة الخارجية التركية.
التمهيد للتدخل الإيراني
يبدو أن التطورات الأخيرة في سوريا، أحدثت هزة عنيفة في توازن العلاقات بين البلدين؛ إذ ترى إيران أن دعم تركيا إسقاط الأسد هو بمنزلة هجوم يستهدف سياستها الإقليمية، غير أن التصريحات الجديدة للمرشد الأعلى تُظهر أن بلاده لا تعتبر الوضع الجديد في سوريا نهائيًّا، بل تراهن على الحالة المتغيّرة والمتقلبة فيها.
وخلال الفترة الماضية وصف خامنئي في كلمة له، الحكام الجدد في سوريا بأنهم "مجموعة من مثيري الشغب"، كما وصف تغيّر النظام في سوريا بـ"الفوضى"، فيما تحدّث أيضًا عن نهضة "الشباب السوري الغيور"، واحتمالية ظهور مجموعة مشرفة قوية تؤثر في مستقبل سوريا، في إشارة إلى احتمال تشكيل مجموعات جديدة لكي تثور ضد الوضع الجديد في سوريا، على نحو يمكن أن يشكل تحديًا جادًّا أمام المشروع التركي الرامي للتعاون والاستثمار في سوريا الجديدة تحت إدارة رئيسها الحالي "أحمد الشرع".
يُظهر تبادل المسؤولين الإيرانيين والأتراك الهجمات الكلامية صدعًا جديدًا في العلاقات بين البلدين، غير أن إحجام كل طرف إلى الآن، عن ذكر الآخر بصورة مباشرة، يُعد مؤشرًا على سعيهما إلى إدارة الخلافات بينهما
أردوغان هو الآخر يرد
وعلى الجانب الآخر، ومن دون أن يشير هو الآخر مباشرةً إلى تصريحات خامنئي حول نهضة "الشباب السوري الغيور"، قال الرئيس التركي أردوغان إن حلفاء بشار الأسد حزينون على فقدانه، وهم بصدد "الثأر"، وأضاف: "بعض حلفاء نظام بشار الأسد هم في حداد منذ أسابيع على فقدانه، ويريدون الآن صبّ جام غضبهم على رؤوس الشعب السوري المظلوم".
ويُفهم من رد أردوغان أنه أراد أن يُلاعب إيران بنفس الأسلوب الذي انتهجته في إظهار غضبها من الموقف التركي، ليؤكد بذلك على الندية حتى في نهج التصريح والتلميح، وإرسال الرسائل التي يجب أن تصل.
إدارة الخلاف
يُظهر تبادل المسؤولين الإيرانيين والأتراك الهجمات الكلامية صدعًا جديدًا في العلاقات بين البلدين، غير أن إحجام كل طرف إلى الآن، عن ذكر الآخر بصورة مباشرة، يُعد مؤشرًا على سعيهما إلى إدارة الخلافات بينهما.
ومن أبرز الدلائل على إدارة هذا الخلاف القائم حاليًّا بين الدولتين، أن تصريحات المرشد خامنئي تزامنت مع وجود وزير التجارة التركي، عمر بولات، في طهران للمشاركة في الدورة الـ 29 للجنة الاقتصادية المشتركة "الإيرانية- التركية"، وخلال زيارته التقى بولات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وناقشا معًا موضوعات هامة مثل رفع حجم التجارة بين البلدين إلى 30 مليار دولار، وتطوير مراكز التجارة الحدودية، وتدشين ممرات حدودية جديدة، وذلك بحسب ما أعلن عنه الوزير التركي.
وهكذا استطاعت طهران وأنقرة على مدى العقدين الأخيرين زيادة تعاونهما، على الرغم من الخلافات والتنافس الدائر بينهما، وبالتالي الإبقاء على علاقتهما في وضعية تعادل.
مع تولي ترامب منصب الرئاسة ووصوله إلى البيت الأبيض، وتصاعد العقوبات الاقتصادية على إيران، يُتوقع أن تفضل إيران التعامل مع تركيا كداعم دبلوماسي ضد العقوبات بدلًا من رؤيتها كخصم
تأثير سياسة ترامب
بعد تسلّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب مقاليد السلطة في الولايات المتحدة، يمكن التطرق إلى سؤال مهم يطرح نفسه وبقوة في إطار الموضوع الذي نتحدث حوله، عن الأثر الذي ستتركه سياسات ترامب على العلاقات التركية- الإيرانية، في ظل ما يتم تداوله والتكهن به عن إعادة تفعيل ترامب سياسة الضغوط القصوى على إيران، علمًا أن تلك السياسة التي من المتوقع أن تضع إيران في أزمة اقتصادية حقيقية ليست هي السيناريو المحبّذ لأنقرة، التي تقيم علاقات واسعة في مجالي الطاقة والتجارة مع طهران.
ووفقًا لمعطيات مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي، فقد بلغ حجم التجارة بين البلدين في عام 2016 -أي السنة الأولى لرئاسة ترامب- أكثر من 10 مليارات دولار، لكنه تراجع إلى نحو 6 مليارات دولار في 2023.
وخلال الفترة المذكورة منحت واشنطن -على الرغم من العقوبات القاسية التي تفرضها على طهران- إعفاءات لثماني دول من بينها تركيا؛ لتتمكن من مواصلة استيراد النفط الإيراني.
والجدير بالذكر أن أحد السيناريوهات الأخرى المطروحة، حول ما تنوي أميركا القيام به مع إيران خلال الفترة المقبلة، هو دعم الإدارة الأميركية خطة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، لضرب المنشآت النووية الإيرانية.
وكما نعلم، فإن سيناريو كهذا من شأنه أن يساهم في زيادة فرص واحتمالات اندلاع حرب إقليمية، وفي حال نشوب حرب كهذه فلا شك أن تركيا لا تريد أن تتورط فيها، لا سيما أنها وإيران ترتبطان بحدود مشتركة يصل طولها إلى 560 كيلومترًا، ما يعني أن التطورات الأمنية في أيّ من الدولتين سوف تلقي بظلالها على البلد الآخر، وهو الأمر الذي يعيه جيدًا قادة كلتا الدولتين.
وبناء على ما سبق، يمكن القول إنه من المتوقع أن تزداد حدة المنافسة القديمة بين تركيا وإيران في المستقبل، خاصة في الساحة العراقية، ولكن مع ذلك يُرجح أن تظل هذه المنافسة متوازنة، دون أن تؤثر سلبًا على العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
ومع تولي ترامب منصب الرئاسة ووصوله إلى البيت الأبيض، وتصاعد العقوبات الاقتصادية على إيران، يُتوقع أن تفضل إيران التعامل مع تركيا كداعم دبلوماسي ضد العقوبات بدلًا من رؤيتها كخصم، حيث إن تركيا لم تدعم من قبل إدخال الاقتصاد الإيراني في أزمات خانقة، وفضلت الحفاظ على استقرار المنطقة، وبالتالي قد ترى إيران في تركيا شريكًا يمكنها الاعتماد عليه، للتخفيف من وطأة العقوبات المتوقعة في عهد ترامب.
كلمة أخيرة
تُوفر التطورات والمتغيرات المستجدة إقليميًّا ودوليًّا في السنوات الأخيرة دوافع ملموسة لإحداث تغير جذري في طبيعة ودينامية العلاقات بين تركيا وإيران، بما يخفف من مساحات الاحتكاك والاستنزاف، ويقوّي الطرفين في مواجهة التحديات الكثيرة التي بات بعضها مشتركًا، كما أن خروج إيران من الواقع السوري يتطلب عدة خطوات إستراتيجية شاملة، نظرًا للتعقيدات العسكرية والسياسية التي كانت تحيط بتدخلها في سوريا من قبل في عهد النظام البائد.
ولا شك أن إيران ستعيد عاجلًا أم آجلًا تقويم إستراتيجياتها في المنطقة؛ لأن مصالحها ونفوذها تراجعا على أكثر من جبهة، ومن ثم فإن الطريق نحو ذلك يمرّ عبر تقليص تدخلها في الكثير من الملفات الإقليمية، ومراجعة سياساتها في سوريا، ولبنان، والعراق، واليمن، وإن لم يكن ثمة وجود لمؤشرات حقيقية بعد على أن طهران جاهزة لفعل ذلك.
وإجمالًا، يُظهر هذا الوضع أن إيران وتركيا جارتان لا يمكنهما التغاضي أبدًا عن الحوار على مستويات عليا، والتواصل المستمر فيما بينهما، لأن كلًا منهما قوة ثابتة في المنطقة، وهما تضطلعان بدور في جغرافيا مشتركة، وذلك في الوقت نفسه الذي تعَدّان فيه متنافسين إقليميين قويين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.