يبدو أن العنصرية والتعصب وجدا طريقًا للظهور في أكثر الأماكن بساطةً، حتى على موائد الطعام، في عالم يزداد تعقيدًا وتشابكًا.. ففي جلسة ودية مع أصدقاء قدامى، وأثناء حديث جانبي عن النكهات والطهي، انطلقت شرارة نقاش أثار تأملًا عميقًا حول فكرة الهُوية والانتماء.
التوميام بين الهوية والتلاقح
كان صديقي التايلندي يتحدث بحماسة عن طبق التوميام الشهير، وهو حَساء تايلندي ذو نكهة حامضة وحارة تسيل اللعاب، تناوله هذا الصديق في أحد المطاعم بماليزيا، حيث أعاده الطعم إلى ذكريات بلده.
بيدَ أنّ حماسته سرعان ما تحوّلت إلى صدمة بالغ فيها كثيرًا، عندما علم أن الطاهي الذي أعد الطبق إندونيسي الجنسية؛ لم يكن الأمر بالنسبة له مجرد مفاجأة، بل اعتبره تعديًا على "ملكية ثقافية"، مدعيًا أن الإندونيسيين قد ينسبون هذا الطبق يومًا ما إلى تراثهم.
لا أريد تجريد التوميام من تايلنديته، لكن حديثه استفزني، فقلت له: "ما تسميه سرقة هو تلاقح ثقافي طبيعي؛ الطعام من وجهة نظري ليس له جنسية، إنه تعبير عن المهارة والإبداع، فالنكهات تتجاوز الحدود تمامًا كما تتجاوزها الأفكار، إذا كان بإمكان أي شخص إتقان مهارة الطبخ، فما المشكلة؟"
لكن جوهر النقاش كان أعمق من مجرد طعام، كان هذا الموقف يعكس قلقًا وجوديًّا حول الهُوية، والخوف من فقدان التميز في عالم يزداد اختلاطًا.
العنصرية والتعصب في أي مجال ليسا سوى عرَضين لخوف عميق من التغيير. لكن، إذا تخلينا عن هذا الخوف ونظرنا إلى التلاقح الثقافي كفرصة للإبداع المشترك، فسنجد أن العالم أشبه بوجبة غنية النكهات
التنافس على حدود التقاليد
هذا النقاش أعادني إلى ذكرى طريفة في حيّنا القديم بمكّة المكرّمة.. ذات صباح، شاهدت شجارًا بين عاملين، أحدهما أفريقي والآخر بنغالي، كان البنغالي يغسل سيارة، وعندما جاء الأفريقي غاضبًا، اتّهمه بالاستيلاء على "عمله"، فقد اعتاد الناس رؤية الأفارقة يغسلون السيارات!
لم يتأخر البنغالي في الرد، مشيرًا إلى أنه رأى الأفريقي ذات يوم يحمل أنابيب الغاز، وهو عمل كان يُنظر إليه على أنه "من اختصاص البنغاليين". تصاعد الجدال حتى تحول إلى اشتباك جسدي، في مشهد جمع بين الطرافة والمرارة.
رغم بساطة الحدثين، فإن الرابط بينهما يكشف عن عمق المشاعر البشرية المرتبطة بالخوف من التغيير وفقدان السيطرة، وسواء كانت هذه السيطرة مرتبطة بطبق طعام أم بوظيفة بسيطة، فإن الأمر يعكس رغبة الإنسان في الحفاظ على ما يعتقد أنه "حقه الحصري".
لكن، إذا تعمقنا أكثر فسنجد أن هذه المخاوف ليست سوى تجليات لصراعات أكبر، اقتصادية وثقافية.
تذكرني هذه المواقف بعبارة للفيلسوف الفرنسي رولان بارت: "الطعام ليس مجرد مجموعة من المنتجات التي يمكن استخدامها للدراسات الإحصائية أو الغذائية، بل هو أيضًا، وفي الوقت نفسه، نظام للتواصل، وجسد من الصور، وبروتوكول من العادات والمواقف والسلوكيات".
في هذا السياق، يتحول الطهي من مجرد ممارسة يومية إلى لغة تُكتب بها قصص الشعوب، وتُروى عبر الأجيال. لكنه، في الوقت نفسه، قد يصبح رمزًا للصراعات حين يُنظر إليه باعتباره ملكية قومية. فمثلًا، عندما يضيف طاهٍ إندونيسي لمسته على طبق تايلندي، أيهدّد ذلك هوية التوميام أم يضيف لها بعدًا جديدًا؟
الهوية في الواقع ليست شيئًا جامدًا أو مقدسًا، بل هي كالنهر المتجدد، الذي تندمج فيه روافد مختلفة لتشكل تيارًا أكثر غنى
الأصالة بين الجمود والتجديد
إذا أردنا استيعابًا أعمق لهذا التعصب، فلنتأمل في قصة افتراضية: تخيل خبازًا مصريًّا يصنع وصفة تقليدية من الخبز والطماطم، ثم يأتي مهاجر إيطالي، يتعلم الوصفة، ويضيف إليها الريحان وجبنة الموزاريلا، ليحولها إلى بيتزا صغيرة. وسرعان ما يزداد الإقبال على الوصفة المعدّلة، ما يثير غضب الخباز المصري، ثم يبدأ نقاش بينهما حول "الأصالة" و"الإبداع"، بينما يقف الزبائن في المنتصف، مستمتعين بالتنوع. هنا، تتضح معضلة الهوية: الأصالة تعني الجمود أم إنها مرنة بما يكفي لاستيعاب التغيير؟
إن ما يجمع بين هذه القصص ليس فقط التعصب الظاهر، بل الرغبة العميقة في حماية "الموروث"، خوفًا من ذوبانه في محيط التلاقح الثقافي، لكن الهوية في الواقع ليست شيئًا جامدًا أو مقدسًا، بل هي كالنهر المتجدد، الذي تندمج فيه روافد مختلفة لتشكل تيارًا أكثر غنى. والأطباق الشهيرة حول العالم تقدم أدلة دامغة على ذلك؛ فالبيتزا الإيطالية ما كانت لتوجد دون الطماطم القادمة من الأميركتين، والهامبرغر الأميركي مستوحى من وصفة ألمانية.
هناك دراسة نُشرت عام 2021 في مجلة الأمن الغذائي، تناولت تأثير الأمن الغذائي الثقافي على الهوية والرفاهية بين طلاب الجامعات من الأقليات الأميركية من الجيل الثاني في الولايات المتحدة.
أبرزت الدراسة أن الوصول إلى الأطعمة الثقافية له دور هام في الحفاظ على الهُوية الثقافية وتعزيز الرفاهية، ما يشير إلى أن الممارسات الغذائية تُعد عنصرًا أساسيًّا في فهم الثقافات وتعزيز الحوار بينها.
ومع ذلك، تستمر النزاعات حول "الملكية الثقافية"، ما يعكس الحاجة إلى تغيير النظرة من احتكار الثقافات إلى الاحتفاء بتداخلها.
التلاقح الثقافيّ والتغيير
ختامًا، صراع صديقي التايلندي مع الطباخ الإندونيسي، وشجار الأفريقي والبنغالي في شوارع مكة، هما رمزان لتحديات أكبر يواجهها عالمنا.
إن العنصرية والتعصب في أي مجال ليسا سوى عرَضين لخوف عميق من التغيير. لكن، إذا تخلينا عن هذا الخوف ونظرنا إلى التلاقح الثقافي كفرصة للإبداع المشترك، فسنجد أن العالم أشبه بوجبة غنية النكهات، لا يمكن أن تكتمل دون مساهمة كل مكون فيها. وقد قال الشاعر محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، وربما ما يستحق التذوق والتنوع أيضًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.