بلغ الأسى منا المدى.. وتطقطقت أضلعنا بين جنبينا، وعلت صرخات الألم والقهر حتى شاحت وجوهنا ولفحت معالمها غياهب الظلم، وما التفتت. واعتصر القلب بألم الخذلان، ودبَّ الوجع في شريانيه زاجرًا: أين الإخوة العرب؟!
ماتت الإنسانية وقيمها، واندفنت قبل أن تنطلق صرخة الفلسطيني وتدوي، والكل يتفرج بصمت مطبق وإن اختلفت النوايا والأهواء.. بيدَ أنهم جميعًا ينتظرون سطور النهاية
لا القريب ولا البعيد شهام.. جلود أطفال تلتصق بعظام بارزة، وما تحركت ولا ارتعشت الأجساد الآدمية المُتَنفذة علَّها تُنقذ رمقًا ينبض!
همم تتغنى بالحقوق والقيم الإنسانية وتتشدق، تملأ آفاق الأرض والسماء، وتطرب العالم والجاهل.. وتحت الطاولة أيديها ملطخة بدماء الإبادة لشعب الجبابرة!
ماتت الإنسانية وقيمها، واندفنت قبل أن تنطلق صرخة الفلسطيني وتدوي، والكل يتفرج بصمت مطبق وإن اختلفت النوايا والأهواء.. بيدَ أنهم جميعًا ينتظرون سطور النهاية.
سلاحهم في غزة والضفة واحد.. "قطع سبل العيش والحياة"!. التلوث والوباء يفتكان بالأنفس، والتجويع يسلب الحياة، ومنع الدواء هو القتل البارد.
سَدّوا وأغلقوا وحطموا كل منافذ الحياة أرضًا وجوًا وبحرًا؛ لينفذوا فيهم عقاب "رفض التهجير". اختطتها عقول أبالسة بشرية ومردة الشياطين، وحكموا: "مت على أرضك جوعًا ومرضًا وقتلًا".
سقطت الأقنعة، وشاهت الوجوه وعبست.. واستنكر البعض ما فعلته حماس ورجالها بالمحتلين!. حماس! هيهات هيهات، ما تجاوزت العدل السوي؛ لكن استوى عند المجرمين وأعوانهم الغارة والإبادة، وهاجوا وماجوا شررًا استطار على رؤوس الغزيين حممًا، وتلونت سماء غزة أحمر وزعفرانًا ودمًا.
أبصرنا جهنم في سماء غزة أحرقت الحجر والبشر.. ورمَّد الغازي المحتل الأبنية والشجر، وغطَّى رماد الركام الرؤوس والخراب، وتلون الأحياء والشهداء فوق الركام وتحت الركام، وتغير لون غزة من روضة مزهرة إلى ركام رمادي.. وما دُكَّ ودُمِّر صار أيضًا رماديًا، منه ما علا ومنه ما انخفض.
ماذا فعلت بنا الحضارة الإنسانية؟ غطت عنجهيتَها وقسوتها ووحشيتها وكبرياءَها وأنانيتها وغرورها بأقنعة من مصطلحات عرجاء.. سموها حقوق الإنسان والقيم الإنسانية
وأصبحت أرض غزة رمادًا.. استوى فوق أرضها الأحياء والأموات والجمادات!. ولولا زرقة السماء وسبحات الغيوم البيضاء، التي أتت لتذكرنا برحمة السماء ولعنة البشر، لاختلط رماد الركام مع وجوه وأجساد الناجين.
وتلونت أرض غزة برماد… لون واحد لا غير!. طارت فيها الأشلاء وتناثرت هنا وهناك، ونفر الدم يمنة ويسرة، وتبعثرت تحت الركام وفوق الركام وفي القمامة، وتلقفتها الكلاب والقطط، وهاشت عليها الهوام والحشرات.
قد تبرز من بين الركام الرمادي خرقة حمراء من بقايا متاع المنازل الراقية، المدمرة حجرًا فوق حجر.. علا الأحمر فوق المارد الرمادي، ليذكرنا بشيء يقولون عنه "الفن والحضارة الإنسانية"!! رمادي أم أحمر؟ هل يهم؟
ثم نكتشف أن الأحمر ما هو إلا حمم وقذائف وصواريخ الحقد والتوحش؛ وكأن اللطخة الحمراء وضعت على اللوحة الرمادية البأساء لتقول لنا: انظروا ما تفعله شرارات الحقد والوحشية الحمراء.. حمم حمراء مجنونة هوجاء على مدار الليل والنهار، تحصد الأرواح والأجساد في غياب الضمير الإنساني.
لم يستطع أحد أن يُوقف نزيف الدم الفلسطيني.. هو دم حلال يُسكب على الإسمنت والحجر والتراب والبلاط، ويرشق الحوائط والأسقف.
ماذا فعلت بنا الحضارة الإنسانية؟ غطت عنجهيتَها وقسوتها ووحشيتها وكبرياءَها وأنانيتها وغرورها بأقنعة من مصطلحات عرجاء.. سموها حقوق الإنسان والقيم الإنسانية والحريات والديمقراطية والعدل والمساواة، واخترعوا حيلة المعايير المزدوجة ليُحلّوا لأنفسهم ويحرّموا على غيرهم.. "أنا وبس"، أنا فوق الأرض.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.