شعار قسم مدونات

الإعلام العربي بين الانحراف والتوظيف السياسي

blogs السوشيال ميديا هاتف
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت القدرة على مقاومة الدعاية الرسمية أكبر من أي وقت مضى، رغم محاولات القمع والسيطرة (مواقع التواصل الاجتماعي)

عندما نتخيل عالمًا مثاليًّا، يُفترض أن يكون الإعلام أداة لنقل الحقيقة، وتعزيز الوعي، ومساءلة السلطة.. لكنه في العالم العربي تحوَّل في كثير من الأحيان إلى مجرد بوق للأنظمة الاستبدادية، وأداة تستخدم إما لإطفاء الأزمات أو إشعالها، ولإثارة الجماهير أو تخديرها، ولإعادة تشكيل الوعي الجمعي بما يخدم بقاء السلطة.

لكن السؤال الأهم ليس عن سبب ممارسة هذا الدور، بل: كيف يتشكل هؤلاء الذين يُطلَق عليهم "المطبلون"؟ كيف يتحول الإعلامي أو المثقف أو الصحفي إلى مجرد صدى لقرارات السلطة، يرددها بحماس ويدافع عنها بشراسة، ثم حين تتغير الظروف، يعيد تدوير خطابه وكأن شيئًا لم يكن؟

الإعلامي أو الصحفي الذي اعتاد التطبيل يجد نفسه غير قادر على النجاح بعيدًا عن النظام الذي يخدمه؛ فهو لم يطور مهاراته النقدية، ولم يبنِ لنفسه مصداقية مهنية، بل اعتمد بالكامل على قربه من السلطة

الإعلام العربي: من السلطة الرابعة إلى أداة بيد السلطة

في كثير من الدول، الإعلام يعرف بأنه "السلطة الرابعة"، لكنه في العالم العربي أصبح سلطة بالوكالة، توظف لخدمة الأنظمة وليس المجتمعات.

لم يعد الإعلام يسائِل، بل يسوّق، ولم يعد يبحث عن الحقيقة، بل يختلقها. وأصبح الإعلامي، الذي يفترض أن يكون ناقلًا أمينًا للواقع، مجرد موظف في جهاز الدعاية، يروج لما يُطلب منه، ويتبنى السردية الرسمية بلا تردد، بل بحماسة تبدو أحيانًا أشد مما لدى أصحاب القرار أنفسهم.

لماذا يطبل المطبلون؟ الجذور النفسية والاجتماعية

لفهم ظاهرة "التطبيل"، لا بد من الغوص في العوامل النفسية والاجتماعية التي تدفع الأشخاص إلى أخذ هذا الدور. يمكن اختصار الدوافع الأساسية في عاملين رئيسيين:

1- الخوف من السلطة: الأنظمة لا تزول أبدًا!

غالبية المصفقين للأنظمة المستبدة لا يفعلون ذلك بدافع الاقتناع الحقيقي، بل بسبب الخوف.. هم يدركون أن النظام قد يكون ظالمًا، فاسدًا، قمعيًّا، لكنهم يعتقدون أنه أبدي؛ ولهذا يفضلون التكيف معه بدل مواجهته.

إعلان

التكيف هنا لا يعني فقط القبول الصامت، بل المشاركة النشطة في تمجيد السلطة، كنوع من الاستثمار في البقاء.

وعندما يسقط النظام فجأة، يصاب هؤلاء بصدمة؛ فهم لم يتوقعوا ذلك، ولم يُعدّوا أنفسهم لهذا الاحتمال.. بعضهم يتحول بسرعة إلى تمجيد النظام الجديد، محاولًا تبرير موقفه السابق، والبعض الآخر ينهار تمامًا، غير قادر على استيعاب أن "القوي الذي لا يُهزم" قد هُزم بالفعل.

2- التطبيل يساوي الاستمرارية: البقاء للأكثر طاعة

الإعلامي أو الصحفي الذي اعتاد التطبيل يجد نفسه غير قادر على النجاح بعيدًا عن النظام الذي يخدمه؛ فهو لم يطور مهاراته النقدية، ولم يبنِ لنفسه مصداقية مهنية، بل اعتمد بالكامل على قربه من السلطة.

لذلك، عندما تتغير الظروف يجد نفسه في مهب الريح، فيبدأ في البحث عن سيد جديد يصفق له، أو يسعى لتبرير تحوله المفاجئ، محاولًا الظهور بمظهر "الواقعي" الذي لم يكن أمامه خيار آخر.

المشكلة في الإعلام العربي ليست فقط في الأفراد الذين يمارسون التطبيل، بل في المنظومة التي تجعل التطبيل شرطًا للاستمرار

تاريخ التطبيل: من رجال البلاط إلى أبواق التلفزيون

ظاهرة "المطبلين" ليست جديدة، بل لها جذور ممتدة عبر التاريخ. ففي كل العصور، كان هناك شعراء البلاط الذين يمجّدون الحاكم ويصفونه بالحكمة المطلقة، وكان هناك فقهاء السلطان الذين يُلبسون قراراته لبوس الشرعية، وكان هناك مؤرخون يكتبون التاريخ كما يريد القصر.

لكن الفارق في العصر الحديث أن الإعلام أصبح أكثر تأثيرًا وأوسع انتشارًا، ما جعل التطبيل صناعة متكاملة.. لدينا الآن فضائيات مخصصة لهذا الدور، وجيوش إلكترونية تقاد بأوامر مباشرة، وإعلاميون مستعدون لتغيير مواقفهم بين ليلة وضحاها، وفقًا لتعليمات غرف الأخبار التي تدار من مكاتب أجهزة السلطة.

الإعلام المطلوب: هل يمكن التغيير؟

المشكلة في الإعلام العربي ليست فقط في الأفراد الذين يمارسون التطبيل، بل في المنظومة التي تجعل التطبيل شرطًا للاستمرار؛ فالإعلامي الذي يقرر أن يكون مستقلًا، غالبًا ما يجد نفسه محاصرًا، محرومًا من الفرص، ومهددًا في مصدر رزقه، وأحيانًا في حريته وحياته.

لكن رغم ذلك، هناك دائمًا فرصة للإعلام الحقيقي أن يظهر، حتى في أكثر البيئات قمعًا؛ فكل نظام يحتاج إلى درجة معينة من السيطرة على السردية، لكنه لا يستطيع التحكم في وعي الناس إلى الأبد.

ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت القدرة على مقاومة الدعاية الرسمية أكبر من أي وقت مضى، رغم محاولات القمع والسيطرة.

خاتمة: متى ينتهي عصر المطبلين؟

المطبلون ليسوا فقط نتيجة للأنظمة المستبدة، بل هم أيضًا جزء من البيئة التي تكرس الاستبداد وتمنحه شرعية زائفة.

لكن التجربة التاريخية تثبت أن الأنظمة لا تبقى إلى الأبد، وعندما تتغير الظروف، يكون المطبلون أول من يسقط، لأنهم لم يبنوا لأنفسهم أساسًا حقيقيًّا بعيدًا عن السلطة.

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: أيمكن للإعلام العربي أن يتحرر من دوره كأداة في يد السلطة، ليصبح أداة في يد المجتمع، أم إن "التطبيل" سيظل هو القاعدة إلى أن تأتي لحظة الانهيار، التي تعيد تشكيل المشهد الإعلامي من جديد؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان