شعار قسم مدونات

أفيون اللاإنسانية: صناعة الإنسان الوحش

حين يمارس فعل العنف على إنسان من طرف إنسان آخر من بني جلدته، فإن الألم الذي يتلقاه يحوله إلى أنقاض إنسان متفتت (الأناضول)

في عالم التعذيب والتقتيل، والعنف والتمزيق، غدا الخط الفاصل بين الإنساني واللاإنساني أرقّ من الشعرة، حين تجرد الإنسان من إنسانيته، وأخرج الوحش الكامن في أغواره رغم محاولات عدة لمواراته، أو على الأقل لإسكاته، ما جعله يتخذ تارة شكل عنف مادي، وتارة أخرى شكل عنف معنوي.

أو قد يتمظهر هذا البعد اللاإنساني في تحويل العنف أو أي سلوك غير مقبول -إنسانيًا قبل كل شيء- لأمر مستساغ على مرأى منا: في شاشاتنا، وجرائدنا، وواقعنا، لا سيما أننا قد طُبِّعنا مع كل أشكال الإذلال التي تمسنا أو تمس غيرنا: "تصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا" (ممدوح عدوان).

تجليات اللاإنسانية.. تسويغ العنف في المجازر

حين يمارس فعل العنف على إنسان من طرف إنسان آخر من بني جلدته، فإن الألم الذي يتلقاه يحوله إلى أنقاض إنسان متفتت، كزجاج مكسور لا يعود إلى حالته الطبيعية حتى بعد إصلاحه، إنا إن تحدثنا عن مجزرة جماعية لا يتقبلها عقل المستمع، فما بالك بالمشاهد، أو حتى بمن يقع عليه فعل الفاعل؟!

يتحول الإنسان بعد دخوله إلى زنزانة موصدة الأبواب إلى شيء آخر غير الإنسان، ويتجلى عمق هذا العنف الرمزي في جعل السجين ذليلًا خانعًا ينزل من مرتبة الإنسان إلى ما هو أدنى

ولعل هذه التجربة بالنسبة لمنفذها ليست إلا مهمة متكاملة مع مهمات أخرى، فمنفذ المجزرة يجد نفسه حلقة ضمن سلسلة من الحلقات المتتالية المتكاملة، التي تتركز على توزيع المهام والمسؤوليات، على أن يتوفر عنصر الأنانية والتغاضي عما سيفعله الآخرون، تقتيلًا لأطفال أو تعذيبًا لنساء أو شنقًا لشباب، لا يهمه الأمر، وبذلك يسكت صوت النفس وتُعفى من المسؤولية.

إعلان

إن السلطة التي تنفَّذ من أجلها هذه الخدمة تعمل على غسل دماغيّ، قائم على إيقاظ غريزة العنف، وإخراج الوحش الكامن في الداخل. هذه العملية السيكولوجية تصل لتجريد منفذ هذا التعذيب من إنسانيته، وتجعل فعله مستساغًا في إعداداته العقلية، وقد يتعدى الأمر ذلك إلى اعتبار فعله غاية نبيلة أو مهمة خاصة، وبالتالي تترسخ في نفسه قناعة بصحة ما يقوم به على اعتباره "خدمة" للسلطة العليا.

علاوة على ذلك، يشير مؤلف "حَيوَنة الإنسان" إلى عنصر آخر، يجعل هذا العنف مستساغًا لا سيما في المجازر، وهو اعتبار الجلاد الضحيةَ إنسانًا آخر أدنى منه، أو إنسانًا غير سوي، لتنفيذ هذا التعذيب، كما يؤكد ذلك دافيد كوبر في "ديالكتيك التحرر": "وغير الإنساني يصبح غير إنسان.. وبهذا يمكن تدميره تدميرًا تامًا من دون أي احتمال لشعور بالذنب".

بالإضافة إلى ذلك، لا بدّ من وجود وسط سياسي ومعنوي لا يكترث لعملية الإبادة أو المجزرة، وتكون ردة فعله التفرج. ولعل واقعنا خير دليل على استمرار المجازر الدموية في قطاع غزة، وجرائم الكيان الغاصب ضد الإنسانية بلا رقيب، وعلى مرأى العالم برمته.

يمكن للقمع أن ينتج شبيهه لدى المقموع، عبر سلوكيات تمردية أو عنيفة تخرج الوحش الذي بداخل الإنسان، أو تحثه ليبادر بالهجوم على الغير في إطار ما سمي بـ"حرب الكل ضد الكل"

تجربة السجن وتقييد الحرية.. الموت الداخلي للإنسان

هي إحدى أعتى التجارب التي تنخر الإنسان من الداخل حتى الموت، إذ يتحول الإنسان بعد دخوله إلى زنزانة موصدة الأبواب إلى شيء آخر غير الإنسان، ويتجلى عمق هذا العنف الرمزي في جعل السجين ذليلًا خانعًا ينزل من مرتبة الإنسان إلى ما هو أدنى، ويقطع صلته بالعالم الخارجي، فيتحول معها من حالة المدنية التي عهدها قبل تجربة السجن إلى عودة لحالة الطبيعة المفرغة من كل الأبعاد الاجتماعية المدنية، حيث تغدو الغرائز حاكمة، ولا يتجاوز السجين سقف الحاجيات البيولوجية.

علاوة على ذلك، يمكن لهذا القمع والقهر أن ينتج شبيهه لدى المقموع، عبر سلوكيات تمردية أو عنيفة تخرج الوحش الذي بداخل الإنسان، أو تحثه ليبادر بالهجوم على الغير في إطار ما سمي بـ"حرب الكل ضد الكل"، أو تمثيلًا أيضًا لمقولة: "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، حيث يصبح البقاء للأقوى.

إعلان

فرغم وجود قوانين سجنية رادعة، فإن داخل السجين يستعر عنفًا وعدوانًا متولدين عن كبت داخلي، وبهذا تتحكم الغرائز في السجين أكثر من القيم والمشاعر الاجتماعية.

ومع أصوات التعذيب والترهيب التي تلتطم باللحم الآدمي، تنسل شيئًا فشيئًا الكرامة والإرادة الإنسانية كانسلال خيوط الثوب، وتخضع لمزاج الضابط حينًا وحرس الجناح حينًا آخر، وهو لا يملك لها رادعًا أو سلطانًا، إذ يعتبر مجرد رقم قد يمحى في أي وقت بجرة قلم.

في تحليله لعلاقة المضطهِد بالمضطهَد، يعرج ممدوح عدوان في كتابه على ذلك قائلًا: "يريد المضطهِد أن يقمع شيئًا محددًا في المضطَهَد هو جوهر حياته، أو أحد أهم المستلزمات لحياته، لأنه يريده نصف حي. النصف الآخر "الزائد" هو الإرادة أو الحرية والكرامة، وهذه فوائض لا يريدها المضطَهِد. وهذا النصف إن لم يَمُتْ فإن الاضطهاد والاستغلال لا يمكن أن يستمرا".

هكذا يمتص المضطهِد الوحشية بجميع المسام في تعامله مع ضحيته، ولعل الماضي الاستعماري لعدد من الشعوب خير شاهد على غريزة العنف هذه، التي تعدت مقاييس ما يمكن للعقل البشري استيعابه، وكرست لسموّ وعلية المستعمِر على المستعمَر، الذي يتعامل معه على أنه الآخر الأدنى منه.

سواء أكان جلادًا أو قامعًا أو مضطهِدًا، تبقى كل هذه الأشكال ممثلة للسلوك اللاإنساني للإنسان، وإيقاظ الوحش المستنيم داخله، وصناعة لأفيون التطبيع مع كل أشكال الإذلال والاحتقار الغيرية، أفيون يكثر أن تتعاطاه الشعوب حتى التخدير.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان