شعار قسم مدونات

نحوٌ سياسيٌّ قَلِق: الفاعل مخلوع والمفعول وطن

المشهد الأخير في حياة السنوار - الجزيرة- ميدجورني
الكاتب: أما آن لأبنائنا إذا ما تساءلوا عن أجمع أمثال العرب، قالت جمهرتها: «رميته بعصا السنوار» (الجزيرة- ميدجورني)

بين الأمر والنهي، والتعدي واللزوم، والجمود والتصرف، والسكون والحركة، تنساب الكلمات وتتخلل حروفها في مطاوي الأيام، فيحيا بها أناس ويهلك آخرون، ويعزّ قوم ويذلّ غيرهم، وتأبى الكلمة خمولًا تضيع معه سنة الخلق، أو فناء لا يكون إلا بفناء تلك الحياة.

في أيامنا تلك، التي هي أيامٌ من الأيام، تمضي اللغة كقافلة لا تستقر، تجرّ قواميسَها خلفها، تلتفت إلى الوراء بحنين، وتمتد للأمام بحذر، وترقص فوق أرض الحاضر بتوجس

ها هي ذي، تتسلّل كخيوط الضوء بين شقوق الزمن، تندسّ في مكامن الأحداث، وتنسج بحروفها مصائر الأمم!. ليست -إذن- محض أصوات تُلفظ، بل هي معاول تهدِم، وأيادٍ تبني، وسيوف تقطع، وألسنة تبايع، أو تُكفِّر.. بها تُكتب مواثيق الممالك، وبها تُلقى خُطب الوداع فوق أطلال العروش.. "فالكلمة نور، وبعض الكلمات قبور".

وما التاريخ إلا جملة طويلة تتعاقب أفعالها وأسماؤها، يختلّ ميزانها بين مبتدأ يبحث عن خبر، وفاعل يستعلي بفعله ويؤخِّر مفعولَه، ومفعول سكن في الهامش دهرًا ثم ما لبث أن انقض ليملأ المتن.

وكم من فاعل ظن أنْ سيبقى مرفوعًا إلى الأبد، لكنه غفل عن أن الزمان متقلب كالأوزان، والكلمات كالممالك، لا تثبت على حال!. وكم من مبتدأ خالَ أنْ لا خبرَ بعده، وأنه منه وإليه والأمر بين يديه!

وفي أيامنا تلك، التي هي أيامٌ من الأيام، تمضي اللغة كقافلة لا تستقر، تجرّ قواميسَها خلفها، تلتفت إلى الوراء بحنين، وتمتد للأمام بحذر، وترقص فوق أرض الحاضر بتوجس.

إعلان

ملأتْنا -نحن العرب- لغة تأبيدية، خطَّها السلطان بمداد الخلود، وغُرِست في الصدور قبل السطور، فصار الحاكم وطنًا، والعرش قدرًا، والسلطان أبًا أو إلهًا، حتى تغلغلت حروفهم في مسامات الحياة؛ فسمعنا عن «الأسد» وما شهدنا شجاعته، وافتخرنا وفاخرنا بالمُلْهَم والمُخلِّص دون إيمان، وهمَسْنا خشيةَ أن «يعلوَ صوتٌ فوق صوت المعركة»، وظللنا سنين ندندن «أحدٌ أحدْ»، حتى أرسلوها في آذاننا مُدوّية «إلى الأبد».

لكننا كنا نجيد التشدّق بفعل ماضٍ مبنيّ على «كانوا وكنا»، و«شهد الزمان» و«كان يا ما كان»، ووجدنا فيه نبيذ سلوانا وخمر عزائنا.

اللغة ليست سوى ظل السياسة على جدران الزمن، تتبدل كلماتها بتبدل الملوك، وينقلب المجاز حقيقة حين ينهار عرش، ويصبح الواقع مجازًا حين ينهض سلطان جديد

لم يكن الكلام محض ألفاظ، بل كان أقفالًا تُغلق أبواب الزمن، فلا مستقبل إلا امتداد الحاضر، ولا حاضر إلا ظل الماضي. لكن الأقدار -وما الأقدار- قلبت موازين النحو والسياسة معًا، وبعد أن كنا نلوي الألسن كما تلوي الريح أعمدةَ الدخان، ها نحن نُحيل المؤبّد ماضيًا، ونُزيل الفواعل، ونهتِك بناء اللغة السرمدية التي رزحنا تحت وطأتها حِقَبًا من الدهر، لا نكاد نُحِسُّ فيها من أحد أو نسمع له رِكْزًا.

جُزم السلطان بحروف النفي، وجُرّ ذليلًا بعبارات الخذلان.. واستبدلنا العذبَ الزلال بالخمر والنبيذ، وطرحنا الماضي الكئيب في مزابل التاريخ، وحزمناها وألقيناها في يم النسيان "كان المخلوع"، "خارَ النظام"، "أين الطاغية؟"، "سقط الأبد"، لتعيد اللغة ترتيب أوراقها بعد أن كانت رهينة الضمائر الغائبة والمستقبل المظلم.

فاللغة ليست سوى ظل السياسة على جدران الزمن، تتبدل كلماتها بتبدل الملوك، وينقلب المجاز حقيقة حين ينهار عرش، ويصبح الواقع مجازًا حين ينهض سلطان جديد.

وترتسم لدينا الآن معالم الحاضر والمستقبل بأمر إلهي قدري، وعقول وقلوب تصوغ لغة «كن فيكون». فهل تصوغ اللغة مستقبلها؟ أم ستظل رهينةَ أمواج السلطة؟

إعلان

هل سنظل نبحث في دفاترنا عن ألفاظ تناسب الأمس، بينما المستقبل يكتب فصوله بأقلام لمّا نألفها؟ وهل نحيا حياةً نلوك فيها بألسنتنا ما نشاء، ونُعرب عما نريد، ونضبط البنية، ونصحح المسار، لنكون «العرب» وهل يُضحي «الشرع» اسمًا متحققًا لا وصفا متخيَّلًا، لتحيا بنا وبه «الأمة».

أما آن لأبنائنا إذا عنَّ لضمائرهم سؤال اللغة عن مرادف لفظة «حماس»، أن تجيب معاجمها بـ: «حركة مقاومة إسلامية»، وأنهم إذا ما تساءلوا عن أجمع أمثال العرب، قالت جمهرتها: «رميته بعصا السنوار»، وإذا ما رأوا بناء «غزة» أيقنوا أن لا ثمةَ تصحيفٌ عن عِزّة، فما هذه إلا تلك.

وتبقى السؤالات ببقاء الأيام، واللغة -كما التاريخ- تحب المراوغة.

فسبحان من كَوّر الليل على النهار، وجعل الظلمات والنور، وطوبى لمن قلّب البصر والبصيرة بين أفلاك الله المنظورة وكلماته المسطورة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان