شعار قسم مدونات

في الأنقاض خُبئت قصص الأشجار وجذور الوطن

دمار كبير لحق بالمدن السورية نتيجة قصف النظام المخلوع (الجزيرة)

رن الهاتف مُعلِمًا بوصول رسالةٍ انتظرتها.. أخي، الذي كان أول من سبق من عائلتنا في الوصول إلى أرض داريا بعد أن حُررت، أرسل إلينا مقطعًا صوّره من الأنقاض التي كانت يومًا بيتًا رحبًا وجنةً معطاءً.

بحثت عينايَ أولًا عن أغصان شجرة الأكيدينيا (اسم شجرة الأسكيدينيا بلهجتنا المحلية)، تلك الشجرة التي أسدلت فروعها المثقلة بالأوراق من فوق سور منزلنا لتُطعم ثمارها كل عابر من أهل حارتنا.

وعلى أعلى السور، وبين الفروع والأغصان، اعتاد أخواي في صباهما الوقوف، متربصين بفتيةٍ أشقياء يطمعون بمزيدٍ من ثمار الشجرة، فينهالون على أغصانها ضربًا بالعصي حتى تتكسر، علّها تُسقِط من أعالي الثمر.

أغصان شجرة الأكيدينيا كانت ترسم في نظري حدود مملكتنا وموطننا المصغر. كنت أعلم أنها قُصفت مع منزلنا، وأنني يقينًا لن أجدها، لكن خيطًا من حنينٍ أقنع مخيلتي أن جذورها لا تزال حيةً، ولعلها تنفست معنا الحرية

كانت حراسة الشجرة بالنسبة لهما أشبه بقضية وطن يحرسانه من كل معتدٍ طامع، فإن هما تعبا تبادلا المناوبة، وطلبا الإمداد أحيانًا من أولاد عمنا. كانا يتقاسمان ما تصل إليه أيديهما من ثمر، ويُكرمان بعض المارة ممن يعرفان أو يستطيبان حديثه وسؤاله.

من الشرفة اعتدت أن أراقبهما، وأسمع دويّ ضحكاتهما كلما استطاعا طرد أولئك الفتية. كانا يتفاخران دومًا بموقعهما الإستراتيجي من فوق السور، الذي يمنحهما إطلالةً وتفوقًا على أعدائهما.

أغصان شجرة الأكيدينيا كانت ترسم في نظري حدود مملكتنا وموطننا المصغر. كنت أعلم أنها قُصفت مع منزلنا، وأنني يقينًا لن أجدها، لكن خيطًا من حنينٍ أقنع مخيلتي أن جذورها لا تزال حيةً، ولعلها تنفست معنا الحرية، فأخرجت إلى سطح الأرض ساقًا وبعض الوريقات.

إعلان

عندما فتحت المقطع المصوّر، أصابتني أول خيبة أمل.. منّيت نفسي أنه إن لم أجد الأكيدينيا، فلربما أجد شجرة التوت الشامي التي تتوسط الأرض الممتدة خلف بناء منزلنا، والتي كانت وجهةَ أمي كل صباح.

اعتادت أن تستيقظ مع أول خيوط الشمس وتلبس ثوبًا استغنت عنه فخصصته لقطاف التوت الشامي. تبادر إلى ثمار التوت فتملأ منها عدة دلاء، تقسمها في أطباق كبيرة، تُرسل منها لجدي ولبيت عمي، وتُبقي على طبق ترش وجهه بالسكر، وتقدمه إلينا أو لضيفٍ عابر، يتذوقه ثم لا ينفك يُثني على طعمه الفريد.

شجرتنا كانت كريمةً معطاءً، دنت بفروعها وأغصانها وكأنها تبسط ذراعيها لكل جائع ليتلذذ بثمارها السوداء. جذعها الثخين كان حِضنًا لنا يوم كنا صغارًا، نتسلق ونتأرجح كما يتسلق الطفل المشاغب أكتاف والده، فيضحك الأب رغم التعب.

لكن شجرة التوت الرؤوم لم تكن موجودة في المقطع المصوّر.. تمالكت نفسي وقلت: لربما أجد شجرة التين، تلك الشجرة كانت حارسة آخر حدود أرضنا، شامخةً علت بفروعها، وأكثر ثمارها كانت بعيدة المنال. في ظلها اعتدنا أن نجلس أو نختبئ، وربما نجح بعضنا أن يتسلق جذعها، ولكنها استعصت عليّ دائمًا.

بالنسبة إليّ، كانت جنديًّا صامدًا استند إلى جدار أرضنا وحماها طويلًا. كان أشقائي ينسجون لي تخيلاتٍ عن عمق جذورها وامتدادها، ويقسمون أن جذورها ضربت بعيدًا حتى تداخلت بجذور شجرة التوت!. أمعنت النظر فلم أجد شجرة التين ولا السور الذي حرسته.. غابت الأشجار الثلاث، وغابت معها ملامح أرضنا وحدودها.

أكمل أخي تصوير بناء منزلنا، وراح يصف البيت وصفًا ساخرًا وكأنه ما زال يوم كنا فيه.

يبدو أن الذكريات لا تُنسى بالتقادم، فصوت أخي الممازح من داخل البيت أحيا الذكريات، وأنهضها من نعوشها، ولربما أحيا معها جذور أشجار الأكيدينيا والتوت والتين، لتنهض وتحرس الأرض وتفرش الأغصان

"انظري أمي، هنا الدَّرج يحتاج بعض التنظيف، وهنا ما يزال أصيص الورد كما تركتِه.

ذاك مطبخك، بقي فيه بعض الأطباق تحتاج إلى غسل، وبرادنا مليء بدلاء التوت. شيماء، انظري! هذا دُرْج أغراضك المحظور، ما يزال كما هو. أما زلتِ تكرهين أن يُفتح بغير إذن منك؟ أما أنا، فلن أنتظر إذنك حتمًا".

إعلان

أخي يعلم أن ذاك الدرج كان بالنسبة لي بنكًا، ومخزن ذكريات، ومخبأ أحلام.. لكنه كان يحب أن يغيظني؛ فيفتحه فقط ليفتعل المشاكل ويضحك كلما شكوته لوالدي.

لم يكن شيء مما ذكره موجودًا في البيت، وصف أخي لذكرياتنا على ما بقي من أنقاض منزلنا نكأ جرحًا غائرًا كنت أظن أنه التأم. عاد إلى مخيلتي مشهد من ذلك اليوم الذي تلقى فيه أبي خبر أول صاروخ قصف منزلنا فأتى على غرفة أو غرفتين.. أطرق أبي يومها وقال: "حسبي الله ونعم الوكيل، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها".

تلا ذلك بعد أيام خبر آخر عن قصف جديد، أنهك غرف البيت الأخرى حتى تهالكت، وأبقى على واحدة. سبقتُ دعاء والدي يومها فقلت بتهكم: "أبقيت غرفة واحدة فقط؟ فليقصفوها هي الأخرى!". كانت تلك طريقتي يومها في الهروب من كل خبر حزين؛ أن أحاول تصغيره حتى يهون على قلبي؛ فلا معنى للحجر إن مات البشر.. أو ربما ظننت أنني نجحت في مداواة جروحي.

لكن أبي يومها غضب من كلامي، فبادرته معتذرة، وغلبتني دموعي حين قلت: "أتصدق حقًّا أني لا أبالي؟ ولكني أفرح أن إخوتي ما زالوا بخير".. تصغير المصيبة حتى تهون كان ديدن كثير من السوريين ليحتملوا سيل الجراح ويتابعوا المسير.

هذه ليست المرة الأولى التي أرى فيها صورًا من حطام منزلنا، ولكني لم أُلقِ لها من قبل بالًا؛ كنت قد ظننت حقًّا أن جراحي شُفيت أو ربما نسيت. لكن يبدو أن الذكريات لا تُنسى بالتقادم، فصوت أخي الممازح من داخل البيت أحيا الذكريات، وأنهضها من نعوشها، ولربما أحيا معها جذور أشجار الأكيدينيا والتوت والتين، لتنهض وتحرس الأرض وتفرش الأغصان.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان