شعار قسم مدونات

الاقتصاد العربي في عصر الصفقات والابتزاز!

أمام التدهور السياسي والاقتصادي تراجع دور مصر في المنطقة العربية- تصوير زميل مصور صحفي ومسموح باستخدام الصورة
الكاتب: ينبغي على الحكومات العربية أن تعيد تقييم ارتباطاتها الاقتصادية مع القوى الكبرى (الجزيرة)
  • إستراتيجيات ضرورية للاستقلال والتحرر من التبعية

شهد الاقتصاد العالمي تحولات جذرية منذ صعود ترامب إلى السلطة، حيث تبنت الولايات المتحدة نهجًا أكثر عدوانية، قائمًا على "الصفقات" والضغط السياسي والاقتصادي.

ومنذ ذلك الحين، تصاعدت محاولات شراء النفوذ والهيمنة عبر بيع الإقامات الذهبية، وابتزاز الحلفاء الأوروبيين، والسعي للاستحواذ على ثروات أوكرانيا المعدنية، إلى جانب التغاضي عن القانون الدولي في قضايا جوهرية، مثل تهجير الفلسطينيين قسرًا وشرعنة التطهير العرقي.

في ظل هذا المشهد المضطرب، أصبح لزامًا على الدول العربية، لا سيما في الخليج، إعادة النظر في سياساتها الاقتصادية والاستثمارية لضمان الاستقرار وحماية مصالحها الإستراتيجية.

التجربة الأوكرانية كشفت بوضوح كيف تسعى القوى الكبرى إلى الاستحواذ على الموارد الإستراتيجية للدول الأخرى، سواء عبر الصفقات المباشرة، أو بوسائل أكثر تعقيدًا، مثل فرض الشركات متعددة الجنسيات كشركاء احتكاريين

تبني سياسة اقتصادية مستقلة ومتوازنة

لم يعد مقبولًا أن تظل الدول العربية رهينة التقلبات السياسية في الغرب، أو خاضعة لضغوط القوى الكبرى. يجب أن يكون الهدف الأساسي هو بناء اقتصاد مستقل قائم على التنويع، بحيث لا تعتمد الاقتصادات العربية على النفط وحده، بل تتجه نحو التصنيع، والتكنولوجيا، والزراعة الحديثة، والاستثمار في اقتصاد المعرفة.

ينبغي على الحكومات العربية أن تعيد تقييم ارتباطاتها الاقتصادية مع القوى الكبرى، وأن تتحول إلى إستراتيجية تقوم على "التوازن الإستراتيجي" في العلاقات الاقتصادية، بحيث لا يكون أي طرف قادرًا على ابتزازها أو فرض شروطه عليها.

إعلان

وهذا يتطلب تعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية مع الأسواق الآسيوية، لا سيما الصين والهند، إلى جانب التوسع في التعاون مع الاتحاد الأوروبي وأميركا اللاتينية وأفريقيا.

حماية الموارد والثروات العربية من الاستغلال الأجنبي

التجربة الأوكرانية كشفت بوضوح كيف تسعى القوى الكبرى إلى الاستحواذ على الموارد الإستراتيجية للدول الأخرى، سواء عبر الصفقات المباشرة، أو بوسائل أكثر تعقيدًا، مثل فرض الشركات متعددة الجنسيات كشركاء احتكاريين.

وفي العالم العربي، تشكل الموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز والمعادن النادرة، هدفًا مستمرًا لهذا النوع من الهيمنة. ولمواجهة ذلك، يجب أن تضع الحكومات العربية سياسات صارمة تحمي ثرواتها الطبيعية، من خلال:

  • تعزيز دور الصناديق السيادية العربية في الاستثمار في الداخل والخارج، بدلًا من ترك رأس المال العربي يتدفق إلى الأسواق الغربية دون عوائد إستراتيجية حقيقية.
  • فرض شروط أكثر صرامة على الاستثمارات الأجنبية في القطاعات الحيوية، بما يضمن نقل التكنولوجيا وبناء القدرات المحلية، بدلًا من مجرد تصدير الموارد الخام.
  • توسيع الشراكات بين الدول العربية نفسها، بحيث تكون هناك مشاريع مشتركة في التصنيع والبنية التحتية والطاقة، ما يقلل الاعتماد على الخارج.

التعامل الأميركي مع القضية الفلسطينية بلغ مرحلة غير مسبوقة من الاستخفاف بالقانون الدولي، من خلال شرعنة الاستيطان، ومحاولة فرض التطهير العرقي، وصولًا إلى دعم مشاريع تهدف إلى التهجير قسرًا

مواجهة الابتزاز السياسي والاقتصادي بحلول إقليمية

السياسة الأميركية في السنوات الأخيرة أظهرت بوضوح كيف يمكن توظيف الاقتصاد كأداة للضغط السياسي؛ سواء عبر العقوبات أو عبر تهديدات الحماية التجارية أو فرض قيود على التحويلات المالية.

ومن هنا، تحتاج الدول العربية إلى حلول تقلل من تعرضها لهذا النوع من الضغوط، وأبرزها:

  • تعزيز أنظمة الدفع المالية العربية، مثل تطوير بدائل لنظام سويفت الأميركي، أو تعزيز التعاون مع الصين وروسيا في أنظمة الدفع البديلة.
  • إطلاق عملات رقمية وطنية أو إقليمية، تقلل من هيمنة الدولار على التجارة العربية البينية.
  • إنشاء تكتلات اقتصادية عربية حقيقية، مثل سوق عربية موحدة أو اتحاد جمركي فعّال، بدلًا من الاتفاقيات الشكلية التي لم تحقق التكامل المنشود.
إعلان

دعم الاستقلالية الاقتصادية للفلسطينيين كأولوية إستراتيجية

التعامل الأميركي مع القضية الفلسطينية بلغ مرحلة غير مسبوقة من الاستخفاف بالقانون الدولي، من خلال شرعنة الاستيطان، ومحاولة فرض التطهير العرقي، وصولًا إلى دعم مشاريع تهدف إلى تهجير الفلسطينيين قسرًا.

وهنا، يجب على الدول العربية أن تتعامل مع دعم الاقتصاد الفلسطيني كجزء من أمنها القومي، وليس مجرد قضية إنسانية. ومن أهم الخطوات التي يمكن اتخاذها في هذا السياق:

  • تعزيز الاستثمارات العربية في فلسطين، عبر صناديق مخصصة لدعم المشاريع الإنتاجية والبنية التحتية، بحيث يتم تقليل الاعتماد على المساعدات المشروطة.
  • دعم الفلسطينيين في بناء منظومة اقتصادية مستقلة، بعيدًا عن السيطرة الإسرائيلية، من خلال دعم القطاعات الحيوية مثل الزراعة والطاقة والتكنولوجيا.
  • فرض قيود على الشركات العالمية التي تدعم الاستيطان الإسرائيلي، عبر حملات ضغط عربية متكاملة، تتضمن سحب الاستثمارات والمقاطعة الاقتصادية.

الدور القطري في دعم التنمية من خلال صندوق قطر للتنمية، والاستثمار في التعليم عبر مؤسسة قطر، ودعم البحث العلمي والتكنولوجيا المتقدمة، كلها عناصر يجب أن تكون نموذجًا لبقية الدول العربية

بناء نموذج عربي يعتمد على الاستثمار في الإنسان والتكنولوجيا

في ظل هذه التغيرات العالمية، أثبتت بعض الدول العربية أن الاستثمار في الإنسان والتكنولوجيا هو السبيل الوحيد للصمود أمام الابتزاز والضغوط الخارجية. تجربة كأس العالم 2022 في قطر قدمت نموذجًا استثنائيًّا لكيفية تسخير الموارد لتنفيذ مشاريع بنية تحتية متطورة، وتعزيز الاقتصاد من خلال الرياضة والسياحة والاستثمار الذكي.

كما أن الدور القطري في دعم التنمية من خلال صندوق قطر للتنمية (Qatar Fund for Development)، والاستثمار في التعليم عبر مؤسسة قطر (Qatar Foundation)، ودعم البحث العلمي والتكنولوجيا المتقدمة، كلها عناصر يجب أن تكون نموذجًا لبقية الدول العربية.

هذه السياسات أثبتت أن بناء اقتصاد قوي لا يعتمد فقط على الثروات الطبيعية، بل على الاستثمار في المعرفة والابتكار، وهو ما تحتاجه المنطقة العربية لتأمين مستقبلها الاقتصادي بعيدًا عن التبعية.

إعلان

الفرصة متاحة، ولكن الوقت ينفد

إن التغيرات التي يشهدها العالم ليست مجرد أزمات مؤقتة، بل هي إشارات إلى نظام اقتصادي جديد أكثر تعقيدًا، يتطلب من الدول العربية أن تتحرر من التبعية، وتعزز قدرتها على حماية مصالحها الإستراتيجية.

هناك نماذج ناجحة يمكن البناء عليها، لكن النجاح يتطلب إرادة سياسية حقيقية، واستثمارات ذكية في المستقبل، بدلًا من الاستمرار في ردود الأفعال المتأخرة على الأزمات المتتالية.

الوقت لم يعد في صالح من ينتظر، بل في صالح من يبادر ويتحرك بحكمة وقوة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان