ما من أحدٍ قادر على نكران تأثير الأحداث التي حصلت في الساحل السوري من تقتيل وتجاوز على الحق الإنساني على الاتفاق المبرم بين الرجلين الباحثين عن الحلّ والاستقرار، تلك الأحداث كانت جرس إنذار صاعق للرئيس أحمد الشرع بأن الأمر قد يخرج عن السيطرة.
ما شوهد من احتفالات داخل جلّ المحافظات السورية ومظاهر الفرح، دليل على أن الرغبة الشعبية كانت في رؤية هذه الصورة للقائدَين وهما يتصافحان، فالاتفاق جعل من الطرفين طرفًا واحدًا في سبيل بناء الدولة الجديدة
لكن هذا الاتفاق لم يأتِ هكذا من رحم أحداث معينة ومن دون مقدمات، فالحديث لم ينقطع بين قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي والرئيس السوري أحمد الشرع، فالرجلان منذ الأيام الأولى أرادا ذلك، وكانا يعملان عليه، التقيا بعد ثلاثة أسابيع من هروب الأسد، لكن كانت في الطريق عقبات ثلاث:
العقبة الأولى: هي الوضع السوري بعد سقوط النظام وتحدي إعادة بناء مؤسسات الدولة المهترئة، والشكّ بين الرجلين، نتيجة سنوات من الخلاف والتصادم العسكري أحيانًا في حلب ومنبج والشيخ مقصود. وانتظار ما في جعبة الشرع في دوره الجديد والمختلف عن سابق تاريخه.
العقبة الثانية: قنديل وسياساته التي كانت تربط بين القضية الكردية في تركيا، وسوريا، والعراق، فلم يكن عبدي حرًّا في المضي نحو اتفاق من دون تحقيق مكاسب مساعدة على المدى البعيد.
العقبة الثالثة: هي أنقرة، القيادة التركية لم تكن وما زالت لا تريد وجودًا كرديًا مميزًا في الدولة السورية الجديدة، تخوفًا من انعكاساته عليها، أو الدمج الكياني الجامع، وإنما تريد وجودًا فرديًا، وتذويبه كما هو في تركيا عبر قرن كامل.
ما سرّع في إنجاز هذا الاتفاق، هو التالي:
رسالة عبدالله أوجلان: كانت قوة دفع ودعم واضحة لمظلوم عبدي، أزالت عنه الكثير مما كان يثقل كاهله، خاصة أن عقله هو مع أوجلان، وإن كانت عضلاته تشكلت مع قنديل.
أحداث الساحل: فما حدث في المواجهة بين القوات السورية وأزلام النظام السابق تحت لافتة العلويين، وضع الشرع تحت علامات استفهام متزاحمة، كما أنّ الشرع وبما له من تجربة في العراق يعلم مدى سرعة انتشار التمرّد في مثل هذه الحالات، ومعاناته في النقص الحاصل في عديد قوات الدولة السورية المطالبة بخوض المواجهات في مناطق متعددة من البلاد، فأحسّ بحاجته الشديدة إلى الصلح مع قسد، وإرسال رسالة إلى العالم الخارجي بأنه ليس رجل التمزيق المجتمعي، وإنما رجل الدولة الجامع. كما أن الغرب أيضًا وواشنطن كانت داعمة عبر إيصال الرسائل للطرفين أن لا بدّ من اتفاق.
الغربيون طلبوا من قسد الوصول إلى حلّ مع الشرع، وأخبروا الشرع بأنه يجب دمج قوات قسد في الجيش الجديد. أما بالنسبة لتركيا، فأعتقد بأن الشرع قد كسب الجولة مع أنقرة بتريثه في اتخاذ خطوات تصادمية مع الطرف الكردي، ويبدو أن أحداث الساحل أيضًا كانت قد أفهمت أنقرة أن الأرض السورية، قد تنفجر وتشتعل نارًا، وقد تتورط هي وتتأثر بها سلبًا.
وقد تتورط عسكريًا عبر التوغل البرّي والتدخل الجويّ إذا ما وجدت حليفها عاجزًا عن الضبط والسيطرة، أو تتأثر إذا ما أصبحت سوريا مثل العراق، وحينئذ يكون الكيان الكردي أكثر استقلالًا مما هو عليه الآن.
كل ذلك جعل أنقرة أمام وضع جديد، لكن يبدو تعاملها الحذر جليًا مع الاتفاق بين الرجلين اللذين رسما طريق السلام الداخلي والوئام الوطني في سوريا الجديدة، ولن تكون المرحب البشوش، لأن لها مطالب تريد تثبيتها في الدستور الجديد، وشكل نظام الحكم.
بالنظر إلى الاتفاق وبنوده فإن جهودًا مكثفة صعبة تنتظر الطرفين في الشهور المقبلة، وهي صعوبة كتابة دستور جديد للبلاد، لأن الحقوق كما ينص الاتفاق تكون وفقًا للمواطنة والدستور، والدستور لم يكتب إلى الآن
أسئلة المستقبل؟
- هل الطريق أصبح ممهدًا لبناء سوريا جديدة موحدة هادئة ومستقرة؟
- الجواب: نعم.
- هل انتهى كل شيء؟ الجواب: لا؟
- لماذا؟
لأن الرجلين والحق يقال أرادا من الأيام الأولى الوصول إلى هذا الحال، وأسَّسا إلى سلام ووحدة للبلاد ووئام بين أطرافه، ودخلا التاريخ عبر قلوب أبناء شعبهما، وما شوهد من احتفالات داخل جلّ المحافظات السورية ومظاهر الفرح، دليل على أن الرغبة الشعبية كانت في رؤية هذه الصورة للقائدَين وهما يتصافحان، فالاتفاق جعل من الطرفين طرفًا واحدًا في سبيل بناء الدولة الجديدة على أنقاض الدولة القديمة التي كانت ظالمة، ومن قوتَيهما قوة شرعية واحدة في التصدي لأزلام النظام السابق.
لأول مرة في التاريخ السوري الحديث تعترف دمشق بوجود القومية الكردية، وترى فيها مكونًا مكملًا للشعب السوري، هذا بحدّ ذاته إنجاز قياسًا إلى العقود السابقة، لكن بالنظر إلى تطور المجتمعات العالمية ليس أكثر من شيء طبيعي تأخر جدًا في المجيء.
لكن وبالنظر إلى الاتفاق وبنوده فإن جهودًا مكثفة صعبة تنتظر الطرفين في الشهور المقبلة، وهي صعوبة كتابة دستور جديد للبلاد، لأن الحقوق كما ينص الاتفاق تكون وفقًا للمواطنة والدستور، والدستور لم يكتب إلى الآن، فكيف تأتي مواد الدستور المنتظر في تثبيت هذه الحقوق والأوضاع؟
بالقياس إلى التجربة العراقية ستكون صعبة ومرهقة للأعصاب، وذلك للأسباب التالية:
تركيا لن تترك الأمور تمشي في طريقها إذا لم تكن مطمئنة، ليس شرطًا أن تتدخل مباشرة عبر مؤسساتها، وإنما عبر أقربائها ممن قضوا سنوات حياتهم العشر الماضية فيها، واكتسبوا جنسيتها.
بقايا العقلية القومجية؛ العقل الفقهي الديني القديم، وإن كان بتأثير محدود وضعيف، فهو يحكم المحيطين بالقيادة السورية.
تصريحات المكلفين بكتابة الإعلان الدستوري ورفعه إلى الرئاسة لا يأتون لا من قريب ولا من بعيد على ذكر الشعب الكردي، فهل يبقى هكذا؟ أو يكون هناك تغيير، ويأخذ القائمون عليه درسًا من أن القوة لا تأتي بالوحدة، ولا الإكراه أيضًا، الوحدة المكرهة تأتي بنظام قمعي لم يبقَ له في التاريخ من مكان.
متشددون من الجانب الكردي، قد يسببون بالتعب والنصب لزملائهم. وما هو شكل النظام الجديد؟ أي كيف يكون المجتمع الكردي جزءًا أصيلًا من الدولة السورية كما ينص الاتفاق؟ هل أن الحقوق القومية تثبت، كالحقوق الثقافية والدراسة باللغة الكردية؟ أو الإدارة القائمة الآن في شمال شرق سوريا كيف يكون دمجها بالمؤسسات الحكومية؟ طريقة دمج عناصر قوات سوريا الديمقراطية، كيف تكون؟ هل الدمج جماعي؟ أو الذوبان الفردي؟
كيف تدار الثروات؟ وكيف توزّع لحين إصدار القانون الخاص بها عبر البرلمان أو المجلس الذي يعينه رئيس الجمهورية؟
هذه الأسئلة جوابها كامن في المستقبل، وما تقوم به اللّجان التي تكلف بوضع خطط تفصيلية لتجسيد الاتفاق على أرض الواقع، ولا ريب من التعرض إلى ضغوطات قاسية من الأطراف التي تسعى لتوجيه مسار الدولة السورية بما ينسجم مع رغباتها الإستراتيجية هي، وليست مصالح الدولة الوطنية المستقلة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.