لقد أحدث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2024 فرقًا هائلًا في السياسة العالمية، ولا سيما في الشرق الأوسط، رغم أنه -في اعتقادي، وربما اعتقاد أي قارئ للأحداث- لم يكن مُتوقعًا أن تصاحبه هذه السيناريوهات، ولا أن يؤسس لهذه المُتغيرات التي ما زالت تسيطر علی الساحة السياسية وتخيّم عليها.
لقد كانت عملية طوفان الأقصى بمثابة الشرارة التي التهمت بتطوراتها الواقع وأذابت صقيعه، فشهد العالم واحدة مِن أعظم الأحداث التي طافت أخبارها الكوكب وسارت بها الركبان؛ لكونها تتعلق بالشأن الإسرائيلي من جهة، ومن جهة أخری لأنّها واحدة من أكثر الصراعات دموية، في العصر الذي يُتصوَّر أنه العصر الذهبي لحقوق الإنسان وحمايته من الإرهاب.
العصر الذي يُسوَّق فيه انتصار البشرية علی كافة أشكال التمييز والعنصرية وادعاء الأفضلية، فأيقظ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الأذهان من وهْم هذه الشعارات الزائفة، وعرّاها، وكشف سوءة النظام العالمي القائم أساسًا علی العنصرية والتمييز، ولو لم يكن لهذا الحدث مِن حسنة سوی هذه لكانت كافية لأن يؤرَّخ ويُوقَف له باحترام وإجلال.
إن الرهان الحقيقي في تطبيق بنود الاتفاق لإحلال السلام يقع علی عاتق المراقبين الدوليين، فإعلام العدو الصهيوني لا يفتأ يلمِّح -من خلال سياسيي هذا الأخير وقاداته المتطرفين- إلی ما مِن شأنه أن يقوّض جهود السلام، ويعيد خيارات الحرب
كان الكيان الغاصب، ومن ورائه القوی الداعمة لبقائه حتی اللحظات الأخيرة لإبرام صفقة وقف إطلاق النار، يُمنِّي النفس بانتصار يحفظ ماء وجهه، ويبقيه محل تقدير رعاته، إلا أن رياح غزة وأبطالها الأُباة أتت وما زالت وستظل تأتي بما لا تشتهي سُفن نتنياهو وحكومته الجامحة.
فقد أُرغِم هذا الكيان علی الجلوس إلی طاولة المفاوضات، بعد نفاد كل وسائله الإجرامية لإخضاع المقاومة الباسلة وانتزاع انتصاره الذي طالما استغبی به شعبه الرافض سياساته الهمجية، ولإقحامه في أتون غزة الصامدة دون جدوی.
وبقدر ما ألقی هذا الكيان الغاصب – ممثَّلًا برئيس وزرائه وأعضاء حكومته المتطرفين- بأوراقه الرابحة لكسب المعركة لصالحه، بقدر ما فشل في ذلك فشلًا ذريعًا، جعله محل سخرية واستهجان من شعبه المغرر به أولًا، ومن مختلف أحرار العالم الرافضين هذه الحرب الهمجية علی الشعب الفلسطيني ابتداءً، الحرب التي لم تعكس سوی وحشيته وإجرامه وأطماعه التوسعية علی حساب الأرض العربية، التي ما زال ينخر فيها منذ عقود وعقود.
وأمام صمت العالم ونفاقه إزاءَ هذا العدوان السافر وآلاته الإجرامية، انبرت أصواتٌ إنسانية تطالب بإيقافها والعدول إلی السلام، من خلال المفاوضات السياسية.
لقد أمعن هذا الكيان وأدواته الدموية في خوض هذه المغامرة رغم خطورتها عليه، وصمّ أذنيه عن سماع دعوات السلام، رافضًا كل شيء إلا استكمال معركته الخاسرة، إلا أنّ أوراق المقاومة الفلسطينية كانت الأكثر ربحًا، والأقدر علی إخضاع هذا الجنون الصهيوني للسلام رغم أنفه، كورقة الأسری مثلًا، وهي أكثر ما أطاح بالغرور الصهيوني، وأفقده توازنه علی الصعيد السياسي.
أما علی الأرض، فقد كانت المقاومة أكثر ما أطاح بعرش كبريائه، وأسقط في الحضيض وهْم الصورة المثالية عن الجيش الإسرائيلي الذي "لا يُقهر"؛ فمنذ اللحظات الأولی لنشوب انتفاضة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، كانت كفة المعركة دائمًا ما ترجّح لصالح المقاومة الفلسطينية، رغم وحشية الاحتلال الذي لم يترك مكانًا إلا وارتكب فيه مجزرة، أو اقترف جريمة بحق المدنيين العُزّل والمساجد والكنائس، ظنًا منه أن ذلك قد يُثني المقاومة عن تكليل انتفاضتها بنصر مؤزر.
راهن الكيان الصهيوني علی كل ما يمكنه الرهان عليه؛ مثل التطبيع، الإعلام، الرعاة الغربيين، القتل والوحشية والإجرام، اغتيال القادة، إلا أنه كان الأقرب إلی الهزيمة، ولم يزل كل يوم يفقد السيطرة علی سياساته وشعبه ويستنزف جيشه، حتی خضع أخيرًا إلی السلام والقبول بشروط المقاومة، إذ لم يلح في أفقه غير إرهاصات الهزيمة، وبين نجاحات وإخفاقات جهود الوسطاء علی الأرض، وجد السلام أخيرًا سبيلًا عبّدها الوسطاء، فكانت كلمة المقاومة في غزة هي العُليا.
الجديرُ بالذكر أن المقاومة الفلسطينية كانت الأكثر رغبةً في السلام، وهذه حقيقة ساطعة لا تحتاج دليلًا، فهي -إذ تمُدّ يدَها إلی السلام- تؤمن بوحي من عقيدتها وتجاربها أن الكيان الصهيوني آخر مَن يؤمن بقيم السلام، أو يحترم مواثيقه وأدبياته، حتی تلك التي تصب في صالحه؛ لأنه عدو محتل ويعلم جيدًا أن اتفاقيات السلام هي بمثابة الأغلال التي تكبح جماحه، وتقمع رغبته الشيطانية في الاستيطان، وشهوته في الحرب وسفك الدماء والتفنن في الدمار والخراب.
ليكن أحرار العالم يقظين مراقبين أيّ خرق قد يفكر به قادة الاحتلال بعد استعادة الرهائن، الشوكة التي ظلت تخنقه، فأرغمته علی التنازل والقبول بأدبيات السلام
وأضف إلی ذلك أن مواثيق السلام تهدد وجوده السياسي؛ لكونه -من حيث المبدأ- احتلالًا قائمًا علی التطرف والإرهاب، ومع ذلك ذهبت المقاومة الفلسطينية بدماء شهدائها وكل أشكال الخراب والدمار إلی المفاوضات؛ لإثبات حسن نواياها في السلام، وأنها لا تعتبر الحرب خيارًا إستراتيجيًا، لولا آلة الحرب الإسرائيلية التي تمارس تحت غطاء عالمي هوايتها المفضلة، ضد الشعب الفلسطيني وسيادة أرضه الحرة.
إننا لا نزايد علی هذا الكيان المحتل، إذ نقول إنه لا يرغب بالسلام إلا بقدر ما يتاح له تحقيق أطماعه الاستيطانية، وأهدافه الإرهابية بحق الشعب الفلسطيني؛ فهو يحاول جاهدًا إقناع العالم بأن المقاومة لا تستسيغ خيارات السلام، ويدفع إلی تقويضه وخرق اتفاقياته بممارساته وأقواله وأفعاله، كي يجد دافعًا للانتقام وتعويض خسائره، وتحسين صورته أمام شعبه الذي يوشك أن يفقد فيه ثقته، مستغلًا المتغيرات السياسية التي استجدت علی الساحة الدولية، وعلی وجه الخصوص صعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلی سدة الحكم مجددًا، وتصريحاته التي تنطوي على إعادة الاعتبار للجيش الإسرائيلي، كما يفهمها نتنياهو ويُعول عليها.
إن الرهان الحقيقي في تطبيق بنود الاتفاق لإحلال السلام يقع علی عاتق المراقبين الدوليين، فإعلام العدو الصهيوني لا يفتأ يلمِّح -من خلال سياسيي هذا الأخير وقاداته المتطرفين- إلی ما مِن شأنه أن يقوّض جهود السلام، ويعيد خيارات الحرب، ولن يعدم هؤلاء المتطرفون تهمة أو مبررًا لذلك، فقد دأبوا منذ احتلالهم هذه الأرض علی خرق الاتفاقيات، وفرض سياستهم كأمر واقع، محتمين في الوقت نفسه بالغطاء الذي يمنحه رعاته الرسميون.
فليكن أحرار العالم يقظين مراقبين أيّ خرق قد يفكر به قادة الاحتلال بعد استعادة الرهائن، الشوكة التي ظلت تخنقه، فأرغمته علی التنازل والقبول بأدبيات السلام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.