يعلم القارئ للأدب العربي المكانة الواسعة التي احتلتها الأطلال في الوقوف والبكاء عليها، وذكر ذلك في مختلف المواضع شعرًا ونثرًا، ويعلم مطالع المعلقات التي -على اختلافها- قد اجتمعت في هذا الجانب وابتدأ معظمها به.. أمرُّ عليها هنا مَرَّ السحابة، متناولةً منها الوصف أولًا، آخذةً بقول طرفة:
لخـولــة أطــلال ببــرقة ثهــمـد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
فإن كنت تعرف كيف تبدو بقايا الوشم فهكذا هي الأطلال بقايا، وهكذا هي بيوت غزة، وغزة بعد الحرب أطلال وبقايا..
وهل يميز المحب للديار القاضي فيها عمره وأيامه، يكبر تحت ظلها، تشهد كل زاوية فيها سنوات عمره، فكان يقف هنا على "أربعته" يحبو، ثم تعلّم المشي هناك، ثم مشى، وغدا بعدها يعود وعلى ظهره حقيبة مدرسته، ثم يرجع وبين يديه كتب جامعته؟
هل يعرف من يحفظ زوايا البيت والحارة حفظًا لا تشوبه شائبة نسيان؟ هل يعرف أطلال البيت والحارة؟ هل يعرفها بعد أن عفا محلها ومقامها يا لبيد؟! هل يعرفها إلا بعد توهُّم يا بن شداد؟!
أطلالنا كانت مقامات لم توضع لتزال ويرتحل أهلها يومًا إلى موضع آخر، كما هو حال الأطلال المعهودة، بل وقفت وتجذرت في الأرض، وتشبثت -كما أصحابها- فيها
يُخبره الجيران أنها هي، هي الحارة نُسفت، وهذا بيتك نُسف.. ينادي البيت الذي ما طال عليه سالف الأبد، كما طال على دار مية النابغة، ولكن طال عليه سالف التخاذل.. يسائل البيت ويسائل الدِّمَن، لكنها -كالدمن التي يبكيها زهير- لم تكلَّم.
أنا لما وقفت على أطلال البيت بكيت؛ بكيت من الذكرى.. تمامًا كامرئ القيس، واستذكرته وقتها حقيقةً لا مجازًا، استذكرته يبكي ويريد من يبكي معه.. استذكرته راكبًا الرحل عليه غبار السفر واقفًا يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللـوى بين الدخول فحـومل
واستذكرت نفسي أهزأ به، وأهزأ بالأطلال والباكين عليها.. استذكرت نفسي أتمثل كلما طرح الموضوع بقول أبي نواس:
قل لمن يبكي على رسمٍ درَس واقـفًا ما ضـر لـو كـان جلَـس
وأنظر لبكاء امرئ القيس لما يقول:
وإن شـــفـائي عَـبــرة مهـــراقـة وهل عند رسمٍ دارسٍ من معول
فأقول ما من أحد يحسن الكذب مثلك يا امرأ القيس، وأتخذها دومًا مثالًا لمبالغات الشعراء التي يشوبها الكذب والتهويل.. أما الآن، فأراها على ما فيها من المبالغة لا ينقصها الصدق، والآن أمشي كثيرًا في الشوارع المحفورة بين الركام حفرًا، تخرج من قلبي زفرات وآهات على ما كان عمرانًا بهيًّا وأضحى اليوم خرابًا، فأقول: حقًا، هل معول في هذا كله؟
أطلالنا وقعت على رؤوس ساكنيها فعلَت أرواحهم إلى السماء، وبقيت الأطلال تبكي -كعادتها- المارين بها، والأدعى للبكاء هم من بقيت جثامينهم الكريمة تحتها.. فهل علمت أطلالًا كأطلالنا يا قارئ الأدب العربي؟!
ومع تخلّيَّ عن معسكر الهازئين بالبكاء على الأطلال، أضيف أن أطلالنا ليست كالأطلال المعهودة… أطلالنا كانت بيوتًا بُنيت بسواعد نبتت من هذه الأرض التي بنيت فوقها، بيوتًا في غزة للاجئين عام 48، أو النازحين عام 67، ولأولادهم وأحفادهم من بعدهم، لمن يعرف قيمة البيت إذ هُجّر منه أولًا، وإذ طال به العمر والمعاناة حتى رجع يبني بعده آخر..
أطلالنا كانت مقامات لم توضع لتزال ويرتحل أهلها يومًا إلى موضع آخر، كما هو حال الأطلال المعهودة، بل وقفت وتجذرت في الأرض، وتشبثت -كما أصحابها- فيها.
أطلالنا كانت حجارة بنيناها بكبد العمر وعرق الجبين، صففناها وجمعناها، فوفت وجمعتنا تحتها أعوامًا.. وما خانت ولا تخاذلت، ولكن غدر بها وغدر بنا قصفت الديار، ونُسفت وفُجِّرت وتشتت ساكنوها، وفي أحيان أخرى كثيرة وقعت على رؤوس ساكنيها فعلَت أرواحهم إلى السماء، وبقيت الأطلال تبكي -كعادتها- المارين بها، تبكيهم عليها وعلى من سكنها، والأدعى للبكاء هم من بقيت جثامينهم الكريمة تحتها.. فهل علمت أطلالًا كأطلالنا يا قارئ الأدب العربي؟!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.