تُعدُّ النخب الفنية في المجتمعات أحد مظاهر القوة الناعمة التي تعكس تعقيدات البنية الاجتماعية والسياسية؛ وفي الحالة السورية، شكّلت موالاة عدد كبير من النخب الفنية لنظام الأسد، حتى سقوطه في ديسمبر/ كانون الأول 2025، ظاهرةً لافتةً تستحقّ دراسةً معمقةً.
لفهم هذه الظاهرة، يجب تحليلها من منظورٍ فكريٍّ متعدد الأبعاد، يجمع بين الاجتماعي والطائفي والسياسي، في سياق ديناميكيات السلطة والهيمنة.
ساهمت بعض الأعمال الفنية السورية المنتَجة تحت مظلة النظام في تشويه الثورة السورية، وتقديم سردية كاذبة تمت صياغتها في أروقة المخابرات. هذه الأعمال كانت تعيد تزييف الواقع فنيًا بشكل يخدم بقاء النظام
الهيمنة الثقافية ودور المثقف العضوي
يتحدث أنطونيو غرامشي عن مفهوم "الهيمنة الثقافية" باعتبارها الآلية التي تستخدمها النخب الحاكمة لضمان سطوتها، من خلال السيطرة على الثقافة والمجال الفكري، وليس فقط عبر القمع المادي.
في الحالة السورية، أجاد نظام الأسد فرض هيمنته على المجال الثقافي من خلال خلق علاقة زبائنية مع النخب الفنية؛ هذه العلاقة قامت على تقديم امتيازاتٍ ماديةٍ واجتماعيةٍ مقابل ضمان الولاء للنظام.
وفقًا لغرامشي، فإن المثقف العضوي هو من يندمج في النظام السلطوي، ويعمل على تبرير سياساته. ويمكن القول إنّ بعض النخب الفنية السورية تحولت إلى مثقفين عضويين للنظام البائد، حيث مارسوا دورًا أثناء سنوات الثورة في تعزيز سردية النظام، وتبرير سياساته القمعية، عبر إنتاج أعمالٍ فنيةٍ تمجّد النظام أو تبرّر عنفه ولو بصورةٍ غير مباشرة.
هذه الهيمنة الثقافية لم تكن عفويةً؛ بل كانت نتيجة إستراتيجية مدروسة، تهدف إلى توظيف هذه النخب في مشروع السلطة.
كما ساهمت بعض الأعمال الفنية السورية المنتَجة تحت مظلة النظام في تشويه الثورة السورية، وتقديم سردية كاذبة تمت صياغتها في أروقة المخابرات. هذه الأعمال كانت تعيد تزييف الواقع فنيًا بشكل يخدم بقاء النظام، حيث صوّرت الثورة كحراك متطرف وجسدت المشاركين فيها كإرهابيين، ما عزز صورة النظام كحامٍ للوطن من الفوضى والتطرف.
الطائفية الفنية كأداة سياسية للسيطرة الفكرية على المجتمع
يتناول إدوارد سعيد في كتابه "الثقافة والإمبريالية" دور الهويات الطائفية والإثنية في بناء تحالفات السلطة. النظام السوري أدرك منذ البداية أهمية استغلال التوترات الطائفية، وخلق هوةٍ بين الأكثرية السنيّة وبقية الطوائف، لضمان ولاء شرائح معينةٍ من المجتمع، ومن ينتمي لها من النخب الفنية.
بعض تلك النخب الفنية التي تنتمي إلى طوائف معينة، شعرت بأنها مرتبطة به، ونظرت له كضمانة للحفاظ على مكانة طوائفها ووجودها. الطائفية هنا لم تكن مجرد انتماء ديني أو اجتماعي، بل كانت أداة سياسية ساهمت في ترسيخ تحالفاتٍ تخدم مصلحة النظام. وهكذا، تم توظيف الطائفية لتكون عامل انقسامٍ مجتمعيٍّ، والأهم من ذلك آلية للحشد والاستقطاب.
وفّر النظام لبعض النخب المنتقاة منصةً للنجاح والشهرة، بينما وفرت هي له واجهة ثقافية تُستخدم لتبرير سياساته داخليًا وخارجيًا، وبقيت تعمل تحت السقف المسموح به
الزبائنية السياسية والمصالح الشخصية
ماكس فيبر، في كتابه "الاقتصاد والمجتمع"، يتحدث عن مفهوم الزبائنية السياسية، حيث يتم بناء الولاء للنظام من خلال تقديم المنافع المادية والامتيازات الاجتماعية. كثير من النخب الفنية السورية كانت جزءًا من هذه المنظومة الزبائنية؛ فقد استفادت من الدعم المالي، والفرص الفنية، والترويج الإعلامي الذي وفره النظام.
وكثير من هذا كان يتم من خلال شركات إنتاجٍ مرتبطةٍ بالنظام البائد بصورة مباشرة أو غير مباشرة. في المقابل، كان مطلوبًا من هذه النخب الالتزام بخط النظام، والترويج لسرديته والبقاء تحت سقفه، وهو يسمح لها بهامش معين من النقد "للتنفيس" عن الجمهور، وخلق حالةٍ يوهم بها المجتمع بتوفر حرية التعبير والانتقاد.
يمكن اعتبار هذه العلاقة تبادلية؛ حيث وفّر النظام لبعض النخب المنتقاة منصةً للنجاح والشهرة، بينما وفرت هي له واجهة ثقافية تُستخدم لتبرير سياساته داخليًا وخارجيًا، وبقيت تعمل تحت السقف المسموح به. هذه الديناميكية تكشف عن دور المصالح الشخصية في تشكيل مواقف الأفراد من السلطة.
مواقف النخب الفنية الموالية بعد سقوط نظام الأسد
مع انتصار الثورة في ديسمبر/ كانون الأول 2025، برزت مواقف متباينة بين أوساط النخب الفنية السورية التي كانت سابقًا موالية، فقد انقسمت إلى فئتين رئيسيتين:
- الفئة الأولى: تمسّكت بمواقفها المؤيدة للنظام البائد، حيث حاولت تبرير ذلك بالادعاء أن مواقفها هذه كانت بدافع الخوف من الفوضى أو الحفاظ على مؤسسات الدولة، أو إيمانًا منها بالوطنية السورية، وما كان يمثله النظام من استقرار ومشروعية. هذه المجموعة استمرت في الترويج لسرديات نظام الأسد حتى بعد سقوطه، ما يعكس عمق ارتباطها النفسي والفكري بالهيمنة التي فرضها النظام لعقود. واستخدمت في هذا السياق الكثير من التبريرات والمغالطات التاريخية، في جوٍ يعكس حالة من الإحباط التي شعرت بها نتيجة سقوط النظام، وما ترتب عليها شعبيًا واجتماعيًا ومهنيًا، حتى إنّ بعض هؤلاء عاودوا التهجم على زملائهم من الفنانين الذين ناصروا الثورة منذ بدايتها.
- الفئة الثانية: فقد تراجعت عن دعمها للنظام البائد ورحبت بالتغيير، لكنَّ مواقف بعض هؤلاء من الإدارة الجديدة كانت مثيرة للجدل؛ إذ عبّروا عن اعتراضات مبكرة على القيادة الجديدة، ووصفوا الحكم الجديد بالتطرف، بل وهددوا بـ "ثورة" جديدة قبل أن يتضح مسار الحكم الجديد بشكل كامل. هذه المعارضة المبكرة قد تكون نابعة من محاولة لتموضع سياسي معين في "سوريا الجديدة"، أو من قناعات حقيقية، لكنها في كل الأحوال تعكس إرثًا عميقًا لاستبداد النظام البائد، يتجلى في كل نواحي المجتمع، ومن ذلك الساحة الفنية.
ألا زال يمكن لهؤلاء الفنانين أن يمارسوا دورهم المرجو في بناء الوعي المجتمعي وتعزيز قيم الحرية والعدالة؟ وهل سيتمكن البعض منهم من استعادة ثقة المجتمع برسالتهم الفنية؟
نحو فهم أعمق للظاهرة
موالاة النخب الفنية السورية لنظام الأسد هي ظاهرةٌ معقدةٌ، ناجمةٌ عن تداخل عوامل اجتماعية وطائفية وسياسية، مدعومة بأدواتٍ فكرية ونظرية تفسر كيفية بناء الولاء. الهيمنة الثقافية، استغلال الطائفية، الخوف الوجودي، الزبائنية، تأثير الاستبداد الطويل.. كلها أخذت دورًا في تشكيل مواقف هذه النخب.
ومع سقوط نظام الأسد، تبرز الحاجة إلى تقييم جديد لدور النخب الفنية في المرحلة المقبلة.. ألا زال يمكن لهؤلاء الفنانين أن يمارسوا دورهم المرجو في بناء الوعي المجتمعي وتعزيز قيم الحرية والعدالة؟
وهل سيتمكن البعض منهم من استعادة ثقة المجتمع برسالتهم الفنية؟ الإجابة تتطلب إعادة صياغة العلاقة بين الفنِّ والمجتمع والسلطة الحاكمة، بحيث يصبح الفن أداة للتعبير عن حال المجتمع وصوته، وليس وسيلةً لدعم الأنظمة المستبدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.