في خضم الغبار الذي خلفته عواصف السنين، وبعد أن أطاح التاريخ بنظام طالما أرهق الأرض والإنسان، تطلع سوريا اليوم على مفترق وجودي: إما أن تستسلم لثقل الذاكرة الدامية، أو تصنع من جراحها سلمًا تعانق به سماء الحرية.
هذه اللحظة ليست مجرد انتقال سلطة، بل هي ولادة جديدة لوعي جماعي ينبغي أن يؤسس على ثلاث دعائم: الصبر كفلسفة حياة، والتحرر من سرديات الكراهية، وبناء الوطن بأدوات الحوار والتشارك.
النظام السابق لم يكن مجرد حكام، بل كان نمط تفكير يستند إلى الإقصاء، والخوف، وتزييف الواقع. الخطر الحقيقي الآن هو أن تتحول الثورة إلى صورة طبق الأصل عما هُدم، بغلاف جديد
الصبر.. ليس استسلامًا، بل إرادة تتشكل ببطء
الصبر هنا ليس انتظارًا سلبيًّا، بل هو فن إدارة الألم وتحويله إلى طاقة خلاقة. فالسوريون، بعد أن نزفوا أحلامًا تحت سطوة الاستبداد، يعرفون أن البناء الحقيقي لا يقاس بسرعة إزالة الأنقاض، بل بعمق الأساسات.
الأوطان تبنى كالكائنات الحية؛ تحتاج إلى زمن لتنبت خلاياها من جديد، دون استعجال يعيد إنتاج الأخطاء. الصبر هو أن نؤمن بأن في الغد أجمل ممكن، لكنه لن يأتي إلا بقدر ما نزرع اليوم من بذور التسامح والعدالة.
التحرر من شرنقة التاريخ
النظام السابق لم يكن مجرد حكام، بل كان نمط تفكير يستند إلى الإقصاء، والخوف، وتزييف الواقع. الخطر الحقيقي الآن هو أن تتحول الثورة إلى صورة طبق الأصل عما هُدم، بغلاف جديد.
التحرر يبدأ بمصالحة جذرية مع الذات: كيف نستذكر الماضي دون أن نكون أسرى له؟ كيف نفرق بين محاسبة الظالمين وبين تعميم الاتهام؟ الوطن الجديد يرفض "ثقافة العدو الداخلي" التي روج لها النظام، ويستبدل بها عقلية المواطنة التي ترى في التنوع نسغًا للحياة.
الحوار.. مطرقة تبني ما لم يدركه السلاح
السياسة في عصرنا لم تعد فن الهيمنة، بل فن إدارة الاختلاف. سوريا الجديدة تحتاج إلى "مشاغل فكرية" تدمج كل الأصوات: الشاب المتعلم في المدينة، والمرأة التي حمت أسرتها في الريف، وحتى من كانوا خلف الأسلاك الشائكة من كلا الجانبين. الحوار الحقيقي ليس ترفًا، بل هو تأمين ضد العنف. لنتذكر دائمًا: الحضارات العظيمة ولدت حول موائد مستديرة تتلاقح فيها الأفكار، لا حول خنادق تتصارع فيها الرصاصات.
سوريا، بجذورها التاريخية العريقة، قادرة على أن تكون مختبرًا لأفكار عصرية تجمع بين الحرية والهوية؛ فلنكن "حملة مشاعل"، تضيء درب التغيير بالصبر والحكمة
المواطن ليس رقمًا، هو شريك في البناء
الوطن الجديد لا ينشأ بقرارات من فوق، بل بمشاركة تصعد من القاع.. التحدي الأكبر هو تأسيس "ديمقراطية ثقافية"، تجعل كل فرد شاعرًا بأن حجرًا من بيته يشد من عظم الوطن. هذا يتطلب نظمًا تعليميةً تعلم النقد بدل التلقين، وإعلامًا يبني ولا يهدم، وقضاءً يحيِّد القانون عن الانتماءات الضيقة.
سوريا.. بستان الإنسانية
سوريا، بجذورها التاريخية العريقة، قادرة على أن تكون مختبرًا لأفكار عصرية تجمع بين الحرية والهوية؛ فلنكن – وعلى غرار أسلافنا الذين بنوا أول أبجدية في العالم- "حملة مشاعل"، تضيء درب التغيير بالصبر والحكمة.
المجد لوطن يرفض أن يكون سجنًا للذاكرة، ويختار أن يكون فسحةً للحلم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.