تداول ناشطون على مواقع التواصل في الأيام الماضية مقطعًا يُظهر اعتقال الأمن العام السوري الشيخَ بسام ضفدع في الغوطة الشرقية، بتهمة العمالة للنظام البائد، ليدور بعد ذلك جدالٌ حول دور هذه الشخصية خلال الثورة السورية.. فما قصة الشيخ ضفدع؟ وما هي الظاهرة التي تُنسب إليه؟
في الأشهر الأولى من انطلاق الثورة السورية، اتخذت غالب الشخصيات العامة من مشايخ وتجار ومثقفين ووجهاء موقفها النهائي من الثورة؛ ففي حين بادر عدد من المشايخ والشخصيات العامة إلى الثورة باكرًا، فتصدَّروا صفوفها وانخرطوا بين كوادرها، انحاز البعض الآخر إلى تأييد النظام بصورة سافرة.
بيدَ أنَّ عددًا من الشخصيات ترددَ خلال السنوات الأولى من الثورة، ويمكن القول إنه -وبعد بدء معارك التحرير- حسمت جميع الشخصيات العامة خياراتها، وتموضعت في أحد الجانبين، أو لازمت الحياد السلبي على الرغم من وجودها في أحد الجانبين، حتى أصبح من النادر أن تجد تغيرًا جذريًا في المواقف بعد عام 2013.
"بسام ضفدع" أحد الوجوه المشيخية في بلدة كفر بطنا بغوطة دمشق الشرقية، درس الفنون الجميلة في دمشق، ثم درس العلوم الشرعيَّة في معهد الفتح الإسلامي
بعد التدخّل الروسي لإنقاذ نظام الأسد في سبتمبر/ أيلول 2015، شنَّت قوات الأسد حملات إبادة واجتياحات متتالية لعدد من المناطق الثائرة المحاصرة، اعتمدت خلالها على الغطاء الجوي الروسي، وعلى الزخم الميداني لمليشيا إيران، لتتمكن من السيطرة على مناطق الثورة تباعًا.
هنا بدأت تظهر دعوات لرِدّةٍ صريحةٍ عن الثورة، وإعادة التماهي مع النظام، وتسهيل سيطرته على المناطق الثائرة، من خلال شخصيات عامة من مشايخ ووجهاء، تصدّروا المشهد وقادوا عملية الانقلاب على الثورة من داخل مناطقها، بالتنسيق مع الجيوش التي تجتاحها من خارجها، وهي الظاهرة التي صارت تُنسب فيما بعد إلى الشخصية الأبرز في هذا الدور.
"بسام ضفدع" أحد الوجوه المشيخية في بلدة كفر بطنا بغوطة دمشق الشرقية، درس الفنون الجميلة في دمشق، ثم درس العلوم الشرعية في معهد الفتح الإسلامي، وفي عام 2007 ترشَّح "ضفدع" لعضوية مجلس الشعب، لكنه فشل في النجاح، ولما قامت الثورة السورية وجد "ضفدع" نفسه وسط بحر من الثوار، فقد كانت الغوطة الشرقية من أهم معاقل الثورة العتيدة، فغاب عن المشهد واعتزل الناس، واكتفى ببعض الحلقات الضيقة مع خلّص طلابه.
شهدت الغوطة الشرقية خلال عام 2016 عدة حملات عسكرية، أدّت إلى تقليص مساحة الغوطة المحررة بعد خسارة الثوار للعديد من المناطق فيها، وفي هذه المرحلة بدأ "بسام ضفدع" يظهر مجددًا في ساحة التأثير، ولأنَّه كان مفتقدًا للمصداقية لعدم مشاركته في الثورة، ولموقفه المشهور حين رفض أن يصلي على شهداء الجمعة العظيمة في أبريل/ نيسان 2011؛ فقد بحث "ضفدع" عن غطاءٍ يواري به نفسه، فصار يلقي الدروس ويحضر اللقاءات متدثرًا بالهيئة الشرعية في دمشق وريفها دون أن ينتسب إليها، بعد أن حاول بعض مشايخ الهيئة احتواءه لمنعه من التشويش وإثارة الشبهات المتعلقة بأحقية الثورة، لكنه مع ذلك استمر بتجنّبه أي حديث عام عن الثورة!
في السابع من مارس/ آذار تسرب مقطع صوتي له، وهو يطلب من الناس أن يرفعوا علم النظام في بلدات الغوطة، وأن يتظاهروا ضد الفصائل الثورية، ليخرج بعض الشبان ويرفعوا علم النظام في كفر بطنا وحمورية
بدأت روسيا في الثامن عشر من شباط 2018 اجتياحًا بريًا على الغوطة الشرقية، هو الأعنف في تاريخ الثورة السورية، فقد سبق الاجتياح البري قصفٌ جويٌ مكثفٌ متواصل، تم خلاله ارتكاب أفظع المجازر بالأسلحة الحارقة والارتجاجية والكيماوية. عند هذه اللحظة خلع "ضفدع" لباس الدرويش وارتدى لباس الشيطان، ليقود انقلابًا على الثورة من داخل الغوطة، منتهزًا انشغال الثوار بالقتال على الجبهات لصدِّ الجيوش الغازية، ومستفيدًا من حالة الفوضى التي سادت آنذاك، لتسهيل دخول قوات النظام السوري والاحتلال الروسي إلى الغوطة الشرقية.
ففي السابع من آذار تسرب مقطع صوتي له، وهو يطلب من الناس أن يرفعوا علم النظام في بلدات الغوطة، وأن يتظاهروا ضد الفصائل الثورية، ليخرج بعض الشبان في اليوم التالي ويرفعوا علم النظام في كفر بطنا وحمورية.
ثم لم تلبث تلك الدعوات أن تحوّلت لمليشيا مسلحة، حيث التفَّ حول "ضفدع" العشرات، الذين سيطروا على مربع سكني في محيط بيته، لتنضم لهم مجاميع أخرى انشقت عن الثوار، بعد أن أقنعهم "ضفدع" بتعهّد النظام بعدم المساس بهم، وعدم سوقهم للخدمة الإلزامية خارج بلداتهم، وهو ما أوهن من عزائم الناس. عندئذ تحركت الفصائل العسكرية لاعتقاله، فدارت اشتباكات قتل خلالها العديد من الثوار قنصًا واغتيالًا، ليتم بعدها تطويق المنطقة وحصارها من الثوار.
مع وصول قوات النظام إلى المناطق السكنية من الجهة الشرقية للغوطة، بعد سيطرتها على المناطق المفتوحة، بدأت القوات الغازية تتكبد خسائر كبيرة بسبب انتقال المواجهة إلى أسلوب حرب المدن، هنا انتقل بسام ضفدع إلى المرحلة التالية بالتنسيق مع نظام الأسد؛ حيث بدأ هجومه من داخل كفر بطنا ليوقع الثوار بين فكَّي كماشة، وليكشف ظهر الثوار بفتح الطريق أمام قوات النظام من بساتين الزور، ليرتقي عشرات الشهداء، وليضطر الثوار -ومعهم آلاف المدنيين- إلى الانسحاب بصورة مفاجئة من بلدات جسرين وسقبا وكفر بطنا، قبل وقوعهم بالحصار، وأثناء هذه المذبحة كان ضفدع وأتباعه يهاجمون مقرات الثوار، ويسيطرون على مواقعهم.
لا شك أنَّ "ضفدع" لم يكن السبب الرئيسي في سقوط الغوطة الشرقية، لكنّه كان أحد أبرز هذه الأسباب.. وهكذا بات مصطلح "الضفدع" سائدًا في الأوساط الثورية، للدلالة على كل من يقوم بالخيانة أو بعملية "التسوية" مع النظام السوري للطعن بالثورة
بعد هذه الخيانة لم يبقَ أمام فصائل القطاع الأوسط من الغوطة الشرقية سوى التفاوض مع الروس، بعد أن تم حصارهم مع آلاف العائلات ومئات الجرحى في بلدتي عربين وزملكا، وجزء من حزة وعين ترما وجوبر، لتختم آخر فصول الصمود الأسطوري للثورة في الغوطة الشرقية بتهجير عشرات الآلاف من الثوار وعائلاتهم إلى الشمال السوري.
ظهر "ضفدع" عقب دخول قوات النظام إلى الغوطة منتشيًا في تسجيلٍ مصورٍ، يخاطب فيه بشار الأسد قائلًا: "سيدي الرئيس؛ لكم الفضل في بناء الوطن وحمايتنا، كنا نتوقع أن النصر سيكون حليفكم وأنكم على حق وقد حصل"، معتبرًا أن ما جرى في سوريا كان تحريضًا، وليس ربيعًا عربيًا، بقوله: "كنا متمسكين برأينا، والأحداث أثبتت هذه الحقيقة"!
لا شك أنَّ "ضفدع" لم يكن السبب الرئيسي في سقوط الغوطة الشرقية، لكنّه كان أحد أبرز هذه الأسباب.. وهكذا بات مصطلح "الضفدع" سائدًا في الأوساط الثورية، للدلالة على كل من يقوم بالخيانة أو بعملية "التسوية" مع النظام السوري للطعن بالثورة، وأصبحت هذه الظاهرة تُعرَّفُ على أنها اختراق النظام السوري أمنيًا وعسكريًا واجتماعيًا لفصائل ومجتمعات الثورة السورية، عن طريق شخصيات وواجهات وأعيان محلية، مهمتها قيادة خلايا نائمة تتحرك في الوقت المناسب لإمالة كفة الأمور لصالح الأسد.
لقد ترافقت هذه الظاهرة دائمًا مع سقوط المناطق وتهجير أهلها، بالإضافة إلى غدر النظام بعدد كبير من أولئك الذين قاموا بالتسويات معه
لقد اعتبر نظام الأسد أن "ضفدع" بطل وطني بعد نجاح مهمته الموكلة إليه، فكان ملهمًا للنظام الذي استلهم تجربته وكررها في مناطق أخرى، فلم يكد "ضفدع" يتم دوره الوظيفي في الغوطة حتى ظهرت "ضفادع" جديدة في مناطق أخرى، منها جنوب دمشق مثلًا، حيث ظهر "أنس الطويل" الذي كان إمامًا في ببيلا ورئيسًا للجنة المصالحة، للترويج لفكرة التسوية مع النظام السوري، والدعوة لحلٍّ سني- شيعي في منطقةِ احتكاكٍ اجتماعيٍ على أسس طائفية، وأحياءٍ محاصرة شهدت حصارًا خانقًا وظروفًا معيشيةً صعبةً، فاستطاع بها تياره الانتصار على حساب تيار الثورة، ليشهد جنوب دمشق مصيرًا مماثلًا لمصير الغوطة الشرقية؛ الحافلات الخضراء لسكانه الذين هجروا إلى الشمال السوري، مقابل دخول النظام وإنهاء الوجود الثوري في جنوب دمشق.
لقد ترافقت هذه الظاهرة دائمًا مع سقوط المناطق وتهجير أهلها، بالإضافة إلى غدر النظام بعدد كبير من أولئك الذين قاموا بالتسويات معه. وبالطبع لم تقتصر الظاهرة على المشيخات المحلية، فقد شملت إلى جانبهم وجهاء وتجارًا وقادة مدنيين وآخرين عسكريين، شكّلوا نواةً لشبكة يمكن إعادة تشكيلها تحت وطأة القصف الرهيب والأرض المحروقة، ما يسهل على هذه الشخصيات أن تقوم بدورها، وتقنع أعدادًا متزايدةً من الناس للالتفاف حولها والانقلاب على الثورة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.