منذ فجر التاريخ كان للأدب، سواء الفصيح أو العامي، كلمةٌ عليا وتأثير ملموس، وأحيانًا خفي، في الحفاظ على شرارات الحركات التحررية أو الحركات الثورية، حتى وإن كانت هذه الحركات في ظروف سياسية تعيسة جدًا، بل وربما في وضع سياسي لا تُحسد عليه، كما هو حال الثورة السورية في بداياتها وحتى وقت ليس ببعيد.
ومع ذلك، نجد أن الأدب الذي نشأ في ظل هذه الظروف المستعصية نما بشكل طبيعي، وطُبع مع كل مراحل الإنسان السوري التي آلت إليها ظروف هذه الثورة من فقر وجوع أو حصار، ولحظات فرح أو لحظات أخرى مليئة بالحزن.
الأدب هو الوسيلة الأكثر تأثيرًا في تشكيل المشاعر الجماعية وتغييرها، ولن ينحني شعب ما دام تراثه الأدبي مشتعلًا
لكن هذا الأدب كان منذ الأيام الأولى يُلامس مشاعر الإنسان السوري وينمي وجدانه، وأحيانًا ينمّيه ليزيد من نشوة الفرحة، وأحيانًا أخرى ليخفض من واقع الصدمة.
ومع كل هذا، من نشوة نصر إلى إحباط خسارة، بقي الأدب السوري الثوري هو ذاته كما كان في أول يوم، شاهدًا على كل تطورات الإنسان السوري الفكرية والسياسية والاقتصادية، وحتى الأوضاع الإنسانية.
ونجد أن واحدة من عناصر الأدب السوري التي تشكلت في الثورة السورية هي الأهازيج السياسية، التي ملأت الشوارع السورية، وكانت عنصرًا فعالًا ومهمًّا، تسببت في التأثير وقلب الرأي العام المحتشد الذي كان يطالب بتحسين الأوضاع المعيشية ليتحول إلى المطالبة بتنحي الأسد، ثم – وبسبب وحشية عناصر النظام- تحول إلى المطالبة بإسقاط النظام من جذوره.
هذه الأهازيج لم تكن مجرد عبارات حماسية أو لحظية، هدفها أن تشحن الشارع الغاضب وتروي عطشه وتريحه من غله، بل العكس تمامًا؛ تأثيرها بدأ يشكل صورة جديدة لسوريا القادمة، المطالبة بتحالفات سياسية جديدة مع المحيط العربي، وتصالح حقيقي من خلال عقد اجتماعي مع الشعب، وخطط اقتصادية فعالة بعيدًا عن عبثية البعث.
لكن اشتعلت الساحة السورية بعدد مهول من الأناشيد والأغاني الشعبية والأهازيج والقصائد الفصيحة وحتى العامية، والتي أُطلق عليها "أدب الثورة السورية".
لقد ساهم هذا الأدب بشكل لافت في تشكيل رأي عام جديد ضد النظام السوري ومشغليه. كما أن العبارات الخالدة مثل "جاييك الدور يا دكتور" التي ارتبطت بالشهيد حمزة الخطيب، وأغاني وأناشيد الشهيد عبدالباسط الساروت كأغنية "جنة جنة" في بداية الثورة و"سوريا جانا رمضان" خلال فترات الانتكاسة، كلها ترسخت بعمق في وجدان الإنسان والمواطن السوري الكريم.
إن انتصار الثورة لا يعني انتهاء الأدب؛ فلولا الأدب الذي بقي متجذرًا في وجدان السوريين خلال سنوات القهر، لما تحقق النصر اليوم
وبسبب طول الحرب، خاصةً في الفترة ما بين 2011 و2020، شهد هذا الأدب عصره الذهبي نظرًا لشراسته وعنفوانه.
لكن يُلاحَظ أنه بعد ذلك، وتحديدًا بين 2020 وأواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، دخل الأدب الثوري السوري في حالة من الجمود، متحولًا من العنفوان والكفاح إلى الإحباط والحزن.
بيد أنه منذ انطلاق العمليات العسكرية الأخيرة وحتى التحرير وسقوط النظام، اشتعلت الحالة الأدبية في سوريا مجددًا، وبرز صوتٌ من تحت الركام، ينزع بكل ما أوتي من قوة حقه المسلوب.
في نهاية المطاف، فإن انتهاء الثورة لا يعني انتهاء الأدب؛ فلولا الأدب الذي بقي متجذرًا في وجدان السوريين خلال سنوات القهر، لما تحقق النصر اليوم. الأدب هو الوسيلة الأكثر تأثيرًا في تشكيل المشاعر الجماعية وتغييرها، ولن ينحني شعب ما دام تراثه الأدبي مشتعلًا.
لذلك، يجب المحافظة على هذا الإرث الأدبي وترسيخه، سواء من خلال الموسيقى، أو الشعر، أو الفن والجداريات، أو العبارات والكلمات، أو الروايات والقصص والحكايات، وغيرها الكثير، وذلك عبر تضمينها في المواد والمناهج الدراسية. في هذه المرحلة، يعدّ هذا الأمر أكثر أهمية من تدريس الأدب العربي القديم أو الجاهلي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.