شعار قسم مدونات

نحو عدالة انتقالية.. مقترح لتأسيس محكمة لمجرمي الحرب في سوريا

بشار الأسد *** تصميم خاص بتغطية سوريا **
الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد (الجزيرة)

بعد أكثر من عقد من الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها نظام بشار الأسد ضد الشعب السوري، تبرز الحاجة الملحة لتأسيس محكمة خاصة لمحاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم.

ومع إعلان الإدارة السورية الجديدة في 30 يناير/ كانون الأول 2025 إيقاف العمل بدستور 2012، أصبح تأسيس هذه المحكمة ضرورة لتحقيق العدالة الانتقالية ومنع الإفلات من العقاب.

يعتمد هذا الطرح على مرجعيتين قانونيتين:

  • القوانين السورية منذ الاستقلال عام 1946، وما طرأ عليها من تعديلات، بما في ذلك قوانين العقوبات والإجراءات الجزائية التي يمكن أن تشكل الإطار القانوني الداخلي لهذه المحكمة.
  • القانون الدولي، لا سيما الاتفاقيات والمعاهدات التي تعالج قضايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، مثل نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقيات جنيف، ومبادئ العدالة الانتقالية.

تنص المادة 555 على أنه من حرم آخر حريته الشخصية بأي وسيلة كانت، عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين

الأساس القانوني وفق القوانين السورية

شهد النظام القانوني السوري منذ الاستقلال تطورًا في القوانين المتعلقة بالجرائم الجسيمة، سواء من خلال قانون العقوبات، أو القوانين العسكرية، أو القوانين الاستثنائية، ما يوفر أساسًا قانونيًا يمكن الاستناد إليه في المحاكمات المستقبلية.

قانون العقوبات السوري (1949 وتعديلاته)

يعدّ قانون العقوبات السوري (المرسوم التشريعي رقم 148 لعام 1949) الإطار الأساسي الذي يحدد الجرائم والعقوبات في سوريا.

إعلان

وقد شهد هذا القانون تعديلات عديدة على مرّ السنين، لكنه لا يزال يحتوي على نصوص يمكن أن تُستخدم في محاكمة مجرمي الحرب.

الجرائم ضد الحياة والسلامة الجسدية

  • تنص المادة 534 على أنه "من قتل إنسانًا قصدًا عوقب بالأشغال الشاقة من خمس عشرة سنة إلى عشرين سنة، وتكون العقوبة الإعدام إذا ارتُكب القتل عمدًا مع سبق الإصرار أو الترصد". ويمكن الاستناد إلى هذه المادة لمحاكمة مرتكبي جرائم القتل الجماعي التي تمت بحق المدنيين.
  • أما بخصوص التعذيب، فقد نصت المادة 391 على أنّ "من سام شخصًا ضروبًا من الشدة لا يجيزها القانون رغبة في الحصول على اعتراف، عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات". هذه العقوبة مخففة مقارنة بجسامة الجرائم التي ارتُكبت، ما يستوجب تعديلها أو الاستناد إلى نصوص أشد.

الجرائم ضد الحرية الشخصية والاعتقال التعسفي

  • تنص المادة 555 على أنه "من حرم آخر حريته الشخصية بأي وسيلة كانت، عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين". يمكن توظيف هذه المادة لمحاكمة المسؤولين عن حالات الاختفاء القسري والاعتقال غير القانوني.
  • كذلك، تشير المادة 556 إلى أنه "تُشدد العقوبة إذا جاوزت مدة الحرمان من الحرية الشهر، أو تم باستخدام العنف".

الجرائم ضد أمن الدولة

  • وفقًا للمادة 285 من قانون العقوبات، "من قام في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها بأعمال تهدف إلى إضعاف الشعور القومي أو إثارة الفوضى عوقب بالاعتقال المؤقت". يمكن إعادة تفسير هذه المادة لمحاكمة المسؤولين عن التحريض على الفتن الطائفية واستخدام العنف السياسي.
  • المادة 286 تنص على أن "من نشر أخبارًا كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات". استخدمت هذه المادة سابقًا لقمع المعارضين، ولكن يمكن استخدامها لمحاكمة المسؤولين عن الدعاية الإعلامية التحريضية التي مهدت لارتكاب جرائم الحرب.

المسؤولية عن الأوامر غير القانونية

  • المادة 218 من قانون العقوبات توضح أنه "لا يُعفى الفاعل من العقاب إذا كان يجهل القانون، لكن يعفى التابع إذا نفذ أمرًا غير قانوني صادر عن رئيسه، إلا إذا كان واضح الجور". وهذا يعني أن المسؤولية لا تقع فقط على القادة، بل تمتد إلى المنفذين الذين كانوا على علم بعدم قانونية أوامرهم.

انضمت سوريا إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عام 1969، والذي ينص في المادة 7 على أنه لا يجوز إخضاع أي فرد للتعذيب أو العقوبات أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية

قانون أصول المحاكمات الجزائية (1950 وتعديلاته)

يحدد قانون أصول المحاكمات الجزائية (المرسوم التشريعي رقم 112 لعام 1950) كيفية التحقيق والمحاكمة في الجرائم. وتبرز منه المواد التالية التي يمكن أن تُستخدم في المحكمة الخاصة:

إعلان
  • المادة 16: "القضاء السوري يملك الولاية على جميع الجرائم التي تقع على الأراضي السورية". وهذا يعني إمكانية محاكمة جميع المتورطين، بغض النظر عن جنسياتهم.
  • المادة 109: "يمكن بمرسوم قانوني إنشاء محاكم خاصة للنظر في جرائم معينة". وهذا يمنح الحكومة الانتقالية صلاحية إنشاء المحكمة الخاصة.
  • المادة 358: "تقبل الشهادة ضد المتهم إذا كانت متوافقة مع وقائع أخرى تدعمها". وهذا يعني إمكانية الاعتماد على شهادات الضحايا والناجين لدعم القضايا المرفوعة.

قوانين خاصة ذات صلة

قانون العقوبات العسكري (1950 وتعديلاته)

يتضمن قانون العقوبات العسكري عقوبات مشددة على الجرائم التي يرتكبها العسكريون أو من في حكمهم. ومن أبرز مواده ذات الصلة المادة 154، التي تنص على ما يلي: "يعاقب بالإعدام كل عسكري يرتكب جريمة القتل بحق مدني دون مبرر قانوني". وهذه المادة تنطبق على كثير من الجرائم التي ارتكبتها قوات الأمن والجيش.

قانون محاكمة كبار المسؤولين (1958)

  • صدر القانون رقم 7 لعام 1958 الذي ينظم محاكمة كبار المسؤولين في الدولة في قضايا الفساد والانتهاكات الجسيمة.
  • يُمكن توظيف هذا القانون لمحاسبة كبار القادة السياسيين والعسكريين الذين أصدروا أوامر ارتكاب الجرائم.

القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان

  • انضمت سوريا إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عام 1969، والذي ينص في المادة 7 على أنه "لا يجوز إخضاع أي فرد للتعذيب أو العقوبات أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية". ويمكن الاستناد إلى هذا العهد لمحاسبة المسؤولين عن التعذيب والانتهاكات.

تنص المادة 3 المشتركة بين جميع الاتفاقيات على أنه يجب معاملة الأشخاص الذين لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية معاملة إنسانية، دون أي تمييز ضارّ، ويحظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية

الأساس القانوني وفق القانون الدولي

القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف

اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية

  • تشكل اتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكولات الملحقة بها حجر الأساس للقانون الدولي الإنساني، وتضع قواعد واضحة لحماية المدنيين وأسرى الحرب في النزاعات المسلحة.

اتفاقية جنيف الأولى (حماية الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة في الميدان)

  • تنص المادة 3 المشتركة بين جميع الاتفاقيات على أنه "يجب معاملة الأشخاص الذين لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية معاملة إنسانية، دون أي تمييز ضار، ويحظر الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وخاصة القتل بجميع أشكاله، والتعذيب، والمعاملة القاسية، والتشويه". تُعد هذه المادة أساسًا لملاحقة المتورطين في أعمال القتل والتعذيب ضد المدنيين والمقاتلين المستسلمين.
إعلان

اتفاقية جنيف الثالثة (معاملة أسرى الحرب)

  • تنص المادة 13 على أنه "يجب معاملة أسرى الحرب معاملة إنسانية في جميع الأوقات، وحظر أعمال العنف ضدهم، أو أي شكل من أشكال الإهانة أو التهديد".
  • يمكن استخدام هذه المادة لمحاسبة المسؤولين عن الإعدامات الميدانية والمعاملة القاسية للأسرى.

اتفاقية جنيف الرابعة (حماية المدنيين في وقت الحرب)

  • تنص المادة 32 على أنه "تحظر الأطراف المتعاقدة جميع التدابير التي تسبب معاناة جسدية أو إبادة للأشخاص المحميين، خاصة القتل، والتعذيب، والعقوبات الجسدية". توفر هذه المادة إطارًا قانونيًّا لمحاسبة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية والتعذيب بحق المدنيين.
  • تنص المادة 147 على أن "تُعتبر الانتهاكات الجسيمة، مثل القتل العمد، والتعذيب، والمعاملة اللاإنسانية، والاحتجاز غير القانوني، جرائم حرب تستوجب محاكمة المسؤولين عنها".

البروتوكولات الإضافية لعام 1977

  • البروتوكول الإضافي الأول يعزز الحماية للمدنيين خلال النزاعات المسلحة الدولية، وينص على منع الهجمات العشوائية ضدهم.
  • البروتوكول الإضافي الثاني يركز على النزاعات الداخلية، وهو مهم جدًا للحالة السورية؛ لأنه يجرّم الهجمات ضد المدنيين وعمليات الإعدام خارج نطاق القانون.

تنص المادة 29 على أن الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية لا تسقط بالتقادم. وهذا يعني أن المسؤولين عن الجرائم الجسيمة سيظلون معرضين للمساءلة القانونية

القانون الجنائي الدولي ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998)

اعتمد نظام روما الأساسي عام 1998، ودخل حيز التنفيذ عام 2002، وهو يُعتبر المرجعية القانونية الأهم في ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية. وتنص المادة 5 على أن المحكمة تختص بمحاكمة الجرائم التالية: جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، وجريمة العدوان.

  • جريمة الإبادة الجماعية (المادة 6): تُعرّف المادة 6 الإبادة الجماعية بأنها: "أي فعل يُرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية كليًا أو جزئيًا". وتشمل الأفعال المحظورة: قتل أفراد الجماعة، وإلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم، وفرض ظروف معيشية تهدف إلى تدمير الجماعة كليًا أو جزئيًا.
  • الجرائم ضد الإنسانية (المادة 7): تنص المادة 7 على أن الجرائم ضد الإنسانية تشمل "أي فعل يُرتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، مع العلم بهذا الهجوم". وتشمل الأفعال المحظورة: القتل والإبادة والاسترقاق والترحيل القسري للسكان والتعذيب، والاغتصاب والاعتداء الجنسي.
  • جرائم الحرب (المادة 8): تنص المادة على أن جرائم الحرب تشمل: الهجمات المتعمدة ضد المدنيين، واستهداف العاملين في المجال الإنساني، واستخدام الأسلحة المحظورة (مثل الأسلحة الكيميائية)، وتدمير الممتلكات دون ضرورة عسكرية.
  • عدم سقوط الجرائم الدولية بالتقادم (المادة 29): تنص المادة 29 على أن "الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية لا تسقط بالتقادم". وهذا يعني أن المسؤولين عن الجرائم الجسيمة سيظلون معرضين للمساءلة القانونية.
إعلان

اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948)

  • تنص المادة 1 على أن "الإبادة الجماعية، سواء في زمن السلم أو الحرب، تُعد جريمة بموجب القانون الدولي، ويجب على الدول منعها ومعاقبة مرتكبيها".
  • تنص المادة 4 على أن "يعاقب مرتكبو جريمة الإبادة الجماعية، سواء كانوا حكامًا أو موظفين رسميين أو أفرادًا عاديين".

القوانين المتعلقة بالمسؤولية الفردية وعدم الإفلات من العقاب

  • مبدأ الولاية القضائية العالمية: وفقًا لهذا المبدأ، يمكن لأي دولة أن تحاكم مرتكبي الجرائم الدولية بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة أو جنسية الجاني. مثال على ذلك: محاكمات المسؤولين السوريين في ألمانيا وفرنسا بموجب قوانين الولاية القضائية العالمية.
  • مسؤولية القادة وفق مبدأ القيادة الفعالة: وفقًا للقانون الدولي، فإن القادة العسكريين والسياسيين يتحملون المسؤولية عن الجرائم التي يرتكبها مرؤوسوهم، حتى لو لم يشاركوا مباشرة فيها، بشرط أن يكونوا على علم بها ولم يتخذوا إجراءات لمنعها.

المقترح أن تختص المحكمة بمحاكمة جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، والجرائم المرتكبة بحق المدنيين منذ عام 2011

الصيغة المقترحة للمحكمة الخاصة

آلية التأسيس

  • إنشاء المحكمة بموجب مرسوم قانوني صادر عن الحكومة الانتقالية، مع ضمان استقلالها التام عن السلطات التنفيذية والتشريعية.
  • ضمان الاعتراف الدولي بها لضمان تنفيذ أحكامها، خاصة فيما يتعلق بالمتهمين الموجودين خارج سوريا.

اختصاص المحكمة

  • تختص المحكمة بمحاكمة جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، والجرائم المرتكبة بحق المدنيين منذ عام 2011.
  • تشمل المتهمين القادة السياسيين، والضباط العسكريين، والعناصر الأمنية المتورطة في الجرائم، إضافة إلى أي أطراف خارجية ثبت تورطها.

الهيكل القضائي

  • تتألف المحكمة من قضاة سوريين ودوليين لضمان النزاهة والحياد. إنشاء هيئة ادعاء مستقلة تجمع الأدلة وتوجه التهم بناءً على وثائق موثقة.
  • توفير برنامج حماية للشهود وضمان سرية بعض جلسات المحاكمة عند الضرورة.

من العوائق السياسية المحتلمة إمكانية مواجهة ضغوط سياسية داخلية وخارجية تؤثر على عمل المحكمة

التحديات المحتملة

الاعتراف الدولي وتنفيذ الأحكام

  • تحتاج المحكمة إلى دعم دولي لتنفيذ أحكامها، خاصة إذا لجأ بعض المتهمين إلى دول أجنبية.
  • التعاون مع الشرطة الدولية (الإنتربول) لتسليم المطلوبين.
إعلان

التحديات القانونية المحلية

  • ضرورة تعديل بعض القوانين السورية أو إصدار قوانين جديدة تتماشى مع القانون الدولي.
  • ضمان عدم تعارض المحكمة مع الدستور الجديد المتوقع اعتماده لاحقًا.

العوائق السياسية

  • إمكانية مواجهة ضغوط سياسية داخلية وخارجية تؤثر على عمل المحكمة.
  • احتمالية استخدام بعض الدول الفيتو ضد أي تحرك دولي لدعم المحكمة.

وختامًا؛ فإنَّ إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب في سوريا هو استحقاق وطني وإنساني وقانوني لا غنى عنه لتحقيق العدالة الانتقالية.

يجب أن تستند هذه المحكمة إلى القانون السوري والقانون الدولي، مع ضمان حيادها واستقلاليتها.

إن تحقيق العدالة هو الطريق الوحيد لإعادة بناء سوريا على أسس من النزاهة والمساءلة، ومنع تكرار الجرائم التي عانى منها الشعب السوري لعقود طويلة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان