شعار قسم مدونات

العزوف عن التعليم بين الشباب: خطر يهدد مستقبل الأمة

1- إعادة المدارس إلى فصول الدراسة بعدما كانت مراكز إيواء
الكاتب: حل مشكلة العزوف عن التعلم مثل حل مشكلة أي ظاهرة اجتماعية سلبية، كالفساد والرشوة، يتطلب تضحيات ومشاركة الجميع (الجزيرة)

تداولت صفحات "فيسبوك" تدوينات تمجّد الدكتور عبدالعزيز ولد إسماعيل، وهو شاب موريتاني حاز جائزة في أحد ملتقيات الأبحاث العلمية في الولايات المتحدة الأميركية.

هذا خبر سار، ويعتبر مجدًا للموريتانيين بصفة عامة، وللمقيمين منهم في الولايات المتحدة بشكل خاص.

وقد كان لي شرف التعرّف على هذا الأخ الكريم أثناء أحد ملتقيات البحوث الطبية قبل سنوات، وأعتبره زميلًا أعتز بصداقته وانتمائه إلى بلدنا الكريم.

لكن الأمر الذي لم يذكره مدونو الفيسبوك هو أن هذا الباحث والطبيب لم يصل إلى ما وصل إليه صدفة أو بسهولة، وإنما كان نتيجة كفاح طويل وجهود متواصلة على مدى سنين طويلة.

فبعد أن أكمل دراسة الطب في سوريا، قدِم إلى الولايات المتحدة، وبدأ الدراسات العليا في مجال الهندسة الطبية الحيوية (biomedical engineering)، ليلتحق بعد ذلك بأحد مراكز البحوث في جامعة دارتموث (Dartmouth University) .

يمرّ المجتمع الموريتاني بتحولات جذرية، نتيجة لعوامل محلية وإقليمية ودولية، لكن من أخطرها حلم الهجرة الذي أصبح يمثل وسيلة للكسب، بدلًا من ارتقاء السلم التعليمي والمهني خطوة بعد خطوة

إنجازات هذا الأخ تعتبر أمرًا يستحق التقدير، ويجلب الفخر لجميع الموريتانيين، إلا أن هناك في الوقت نفسه العشرات أو ربما المئات غيره، كان بمقدورهم تحقيق نتائج مماثلة، لكنهم فضلوا طرق الكسب السريع، وأعني هنا حَمَلة الشهادات في مختلف المجالات، الذين قدموا إلى هذا البلد الذي هو منارة للتعليم والتطور العلمي والتكنولوجي، واختاروا التوجه إلى طرق الكسب السريع، بدل أن يستثمروا جهودهم في تطوير قدراتهم ومؤهلاتهم العلمية والتقنية، بطريقة تمكنهم من احتلال مناصب يفتخر بها الأميركيون قبل الموريتانيين.

إعلان

لكل موريتاني الحق أن يفتخر بمنجزات أبناء بلده وأن يعتز بهم، ولكن أحسن طريقة لفعل ذلك هي أن نحذو حذوهم، وأن نقتفي أثرهم ونستفيد من تجاربهم.

والسؤال الذي يتبادر للأذهان في هذا النطاق عما إن كان الموريتانيون فعلًا معتزين بإنجازات هذا الباحث المشرّفة بصورة حقيقية، أم إن هذه الضجة ليست سوى وسيلة للافتخار بالهوية المشتركة، دون تثمين الجهود المضنية التي كان هذا الإنجاز محصلة لها.

قدِم الدكتور عبدالعزيز ولد إسماعيل إلى الولايات المتحدة سنة 2010، بعد أن تخرج في كلية الطب في سوريا، أي إن إنجازه الذي نحتفل به الآن جاء بعد أربع عشرة سنة من المثابرة والاجتهاد، في وقت كان يمكنه فيه التوجه إلى الأعمال الأخرى التي يزاولها معظم مواطنينا هنا، والتي تضمن مردودًا ماليًّا أحسن بكثير، ولا تحتاج إلى أي تأطير أكاديمي أو دراسة جامعية.

لكن الدكتور عبدالعزيز اختار الطريق الأصعب والدخل المتواضع، لأنه يؤمن -حسب تصوري- بقيمة العلم واكتساب الخبرة، ولم يغرّه أو يهمّه تكديس الدولارات أو الاغتناء بالسيارات والمنازل الفاخرة في أحياء نواكشوط "الراقية"، وهو الأمر الذي يعتبره معظم مجتمعنا "نفشة"، وتضييعًا لفرصة سانحة للثراء كانت ستضمن له مكانة مرموقة بين من يحسب لهم حساب.

تمكّن الدكتور عبدالعزيز من تحقيق إنجازات باهرة يحلم معظم الأميركيين والموريتانيين -على حد سواء- بالحصول عليها، لكن القلة القليلة من الموريتانيين مستعدون في الوقت الحالي لبذل الجهود التي يتطلبها الوصول إلى هذه المرتبة، وهنا تكمن المعضلة.

لقد تعوّدنا في مجتمعنا الموريتاني على طرق الكسب السريع، ونيل جميع ما نطلبه عن طريق الوساطة أو الرشوة، أو غير ذلك من الطرق الملتوية المنافية لتعاليم ديننا الحنيف، ولمبادئ المساواة والعدالة.

هذه العادة ليست سيئة وغير أخلاقية فقط، وإنما هي أيضًا مدمّرة لقيم المجتمع، ولمستقبل الأجيال، وتطلعات الأفراد ورؤيتهم المستقبلية، وهي واحدة من العوامل الأساسية التي أدت إلى تفشي ظاهرة العزوف عن التعليم بين المراهقين والشباب.

يجب علينا أن نتخلى عن التفكير في المصلحة الشخصية الضيقة، وأن ندرك أن البلد -أي بلد- يحتاج إلى تضافر الجهود لتوفير جميع المتطلبات اللازمة للحاجات المجتمعية

يمرّ المجتمع الموريتاني بتحولات جذرية، نتيجة لعوامل محلية وإقليمية ودولية لا يتّسع المقام هنا للخوض فيها، لكن من أخطرها حلم الهجرة الذي أصبح يمثل وسيلة للكسب، بدلًا من ارتقاء السلم التعليمي والمهني خطوة بعد خطوة.

إعلان

ويطمح معظم المراهقين والشباب اليوم للهجرة إلى الدول الغربية أو الخليجية، على سنّة من سبقوهم وتمكنوا من تجميع ثروة أمّنت لهم مكانة مرموقة بين ذويهم، وخوّلتهم قضاء عطلٍ مليئة بالترف والبذخ.

أما طريق التعلم وكسب المهارات والخبرات فهو طريق طويل، لا يمكن الوصول إلى نهايته إلا بالكدّ والمكابدة والاجتهاد، ويتطلب قناعة راسخة بقيمة التعلّم، والدور الأساسي لهذه المهارات والخبرات لا يمكن الاستغناء عنه أو تحقيق أي تطور بدونه.

يجب علينا أن نتخلى عن التفكير في المصلحة الشخصية الضيقة، وأن ندرك أن البلد -أي بلد- يحتاج إلى تضافر الجهود لتوفير جميع المتطلبات اللازمة للحاجات المجتمعية، بما فيها التعليم والصناعة والصحة، والبنى التحتية من طرق وموانئ، ومصادر للمياه والكهرباء.

وإذا قبلنا بهذه المسلّمة التي لا خلاف عليها، فمن المنطقي أن ندرك أننا بحاجة إلى مهنيين وخبراء في جميع هذه المجالات على جميع المستويات، لتوفير هذه الحاجات والسهر على تسييرها وصيانتها.

كما أن من البديهي أنه لا يمكن الحصول على هذه الخبرات إلا عن طريق التعليم وحده. ليس ذلك فقط، ولكن علاوة على ذلك لا يمكن الحصول على هذه الخبرات بصورة آنية، أو بتلويح عصا سحرية، وإنما يتطلب تكوين هؤلاء المهنيين عقودًا من الزمن، فضلًا عن تشجيع ومساندة الأفراد والعائلات، والمجتمع والحكومة.

أرجو أن أكون قد تمكنت من إقناع القارئ الكريم بضرورة التعلّم والتعليم، والحرص عليهما كضرورة مجتمعية وواجب ديني ومدني، وأهمية تثمين من يقدمون تضحيات ثمينة في سبيل طلب العلم وتعليم الأجيال القادمة، التي هي أمل ومستقبل الأمة. أما الحل فهو واضح، سهل وصعب في نفس الوقت!

حل مشكلة العزوف عن التعلم مثل حل مشكلة أي ظاهرة اجتماعية سلبية، كالفساد والرشوة، يتطلب تضحيات ومشاركة الجميع بداية بالفرد والعائلة، كما أنه يتطلب الصبر؛ فالمشاكل التي ترسخت وترسبت عبر عقود من الزمن لا يمكن حلها بين عشية وضحاها.

إعلان

كما أن دور الحكومة هنا لا يقل أهمية عن دور الفرد، بدءًا بتوفير مؤسسات تعليمية فعّالة، وتشجيع المعلمين والمتعلمين، وخلق فرص عمل وأجور كافية لتغطية تكاليف المعيشة، إلى غير ذلك مما يمكّن سوق العمل المحلية من منافسة أسواق العمل الأجنبية.

لكن على كل واحد أن يبدأ بما يمكنه فعله ليرضي ضميره، ويقوم بواجبه، دون أن ينتظر من غيره القيام بذلك أولًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان