التمدد الصهيوني في سوريا أخيرًا، يعيد لفت الأنظار إلى المشروع الصهيوني.. هل انكفأ المشروع الصهيوني على حدود فلسطين، وصار بديلًا عن المشروع الذي كان يعلَن عنه أحيانًا: "حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل"؟
ظن العرب أن سلامهم مع "إسرائيل" قد أعفى الصهاينة من التمدد، لم يكونوا يقصدون التمدد الجغرافي فقط، بل كافة أنواع التمدد، ولكن نسف مواقع الجيش السوري المهزوم، والتمدد في سوريا، يؤكد أن المسألة ليست في التمدد الجغرافي فقط، بل في امتلاك السيطرة على النفوذ في العالم العربي والإسلامي.. ألا يمكن أن تكون هناك قنوات غير معلنة للنفوذ الصهيوني في العالم العربي عبر واجهات كثيرة، هي التي أدارت الحرب الإعلامية ضد المقاومة في معركة طوفان الأقصى، تلك التي تعودنا أن نطلق عليها "الذباب الإلكتروني"؟
أول جمعية صهيونية أسست في البصرة عام 1914، أَنشأت مدرسة عبرية ضمت مئتي طالب، لكن معارضة كبير حاخامات البصرة انتهت إلى إغلاقها
دعونا نفتح بطن التاريخ لعلنا نأخذ منه إشارات.. إذا راجعنا مثلًا النشاط الصهيوني في العراق، الذي بدأ مبكرًا على وعد بلفور، نجد ما أرخه نبيل الربيعي في كتابه عن تاريخ يهود العراق. لا يشكل هذا ماضيًا يمكن نسيانه، بل إنذارات يجب أن تبقى نصب أعيننا في المستقبل عندما نتعامل مع الدولة الصهيونية، ومما سنراه مشروعات تشبه اقتراح ترامب على مصر والأردن بشأن انتقال الفلسطينيين من غزة إلى كلٍّ منهما.
أول جمعية صهيونية أسست في البصرة عام 1914، أَنشأت مدرسة عبرية ضمت مئتي طالب، لكن معارضة كبير حاخامات البصرة انتهت إلى إغلاقها.
وبعد صدور وعد بلفور دعا أرنولد ولسون، وكيل الحاكم الملكي في العراق، وجهاء اليهود إلى لقاء يبشرهم فيه بوعد بلفور، وفوجئ بموقفهم إذ أعلنوا أنّ: فلسطين مركز روحي، ونحن نساعد رجال الدين والمعابد بالمال، ولكن وطننا هذه البلاد التي عشنا فيها عبر السنين، وتمتعنا بخيراتها، فإذا أردتم مساعدة هذه البلاد ودعم اقتصادها، فإننا نشارك بلادنا الرخاء العام.
وصل اثنان من دعاة الصهاينة إلى العراق في عشرينيات القرن الماضي، كما ذكرت ذلك إحدى الوثائق الحكومية الرسمية العراقية، وقد تقابلا مع المندوب السامي البريطاني، ومعهما كتاب توصية من هربرت صموئيل، المندوب السامي في فلسطين.
الكاتب السعودي يحيى ساعاتي في كتابه "من يقرأ المصباح" راجع أعداد صحيفة "المصباح" الأسبوعية، التي أنشأها يهود في بغداد، ووصل إلى خلاصة أنها كانت تنشر معلومات عالية الخطورة عن النشاط الصهيوني، وتبشر بوضوح تام بقيام دولة "إسرائيل"، وركزت على المشروعات الزراعية والجامعة العبرية، وغيرها من المشروعات الاقتصادية.
خلال زيارة فيصل الأول إلى لندن عام 1933، تسلم اقتراحًا بتوطين مائة ألف يهودي في منطقة دجلة، بين الكوت والعزيزية، مقابل فوائد مالية
ويتابع مشيرًا إلى أن ما ينشر لم يلقَ أي اهتمام يُذكر، ودون أن يكون لذلك أدنى تأثير على القارئ العربي، وعلى الأخص السياسيين، إذ لو وُجد اهتمامٌ جاد بمتابعة ما ينشر على صفحاتها لأمكن تدارك بعض الخطر، أو الحد منه على الأقل، رغم الظروف السياسية التي كانت تسود العالم العربي الممزق المستَعمر آنذاك.
خلال زيارة فيصل الأول إلى لندن عام 1933، تسلم اقتراحًا بتوطين مائة ألف يهودي في منطقة دجلة، بين الكوت والعزيزية، مقابل فوائد مالية.
وبعد وعد بلفور قام الصندوق القومي اليهودي بإنشاء عدة كيانات لتمويل وتهيئة الأرض، واستيعاب اليهود في فلسطين، وكلفت فرعا لها بالعمل في العراق، شجعت من خلاله على شراء أراضٍ في مختلف أنحاء العراق.
وفي عام 1937 حضر رئيس الوكالة اليهودية إلى بغداد وتجول في أنحائها، وعين الأراضي التي ينصح بشرائها، ونصح بإشراك بعض المسلمين مقابل حصة ضئيلة من الأسهم. واعتقدت الوكالة أن العراق مرتع خصب لنشاط المبادئ الصهيونية، وتقاطر دعاة الصهيونية إلى العراق بعدها. وأصبح لها وكلاء في أكثر من مدينة عراقية، جمعوا تبرعات، ورتبوا هجرة أعداد محدودة، واستغل البعض مواقعهم في مدارس الأليانس للدعاية الصهيونية.
في فبراير/ شباط عام 1929، زار الصهيوني البريطاني ألفرد موند بغداد، وحسب صحيفة "المصباح" فإنه كان يرأس "الجمعية الاقتصادية الفلسطينية"، وكانت مهمتها جذب المستثمرين اليهود من كل أنحاء العالم للاستثمار في فلسطين، وكان موند يقول إن الفرص الاستثمارية أفضل في فلسطين منها في كندا.
أدت هذه الزيارة إلى مظاهرات، وصدر قانون عقوبات بحق المتظاهرين. ويبدو أن النشاط الصهيوني أصبح واضحًا، فاتخذت وزارة ياسين باشا الهاشمي قرارًا بمنع الصحف الصهيونية من دخول العراق، وشمل المنع خمس صحف.
اللافت للنظر أن الأحزاب اليسارية، والحزب الشيوعي العراقي، كان لها دور كبير في فضح المخططات الصهيونية، والحزب الشيوعي العراقي لم يتبع الموقف السوفياتي المؤيد لقرار تقسيم فلسطين مثل أكثر الأحزاب الشيوعية العربية
عرض الكتاب اثنتي عشرة جمعية تبنّت الخط الصهيوني، أقيمت في عدة مدن في العراق، من أهمها منظمة هاشورا، وكانت لها صلاتها بالهاغاناه، التي زودتها بأسلحة، كما رتبت لزيارة موشيه دايان السرية إلى العراق. أما أخطر هذه المنظمات فكانت منظمة "تنوعة"، التي أُسست عام 1943، وهي التي قامت بمجموعة من عمليات التفجير، بقصد إشاعة الرعب بين اليهود ودفعهم للهجرة.
واللافت للنظر أن الأحزاب اليسارية، والحزب الشيوعي العراقي، كان لها دور كبير في فضح المخططات الصهيونية، والحزب الشيوعي العراقي لم يتبع الموقف السوفياتي المؤيد لقرار تقسيم فلسطين مثل أكثر الأحزاب الشيوعية العربية.
أما أقوى مواجهة للمشروع الصهيوني في العراق، فقد عبر عنها عزرا مناحيم دانيال، عضو مجلس الأعيان العراقي عن الطائفة اليهودية، وقد ألقى كلمة في المجلس ذكر فيها أنه في عام 1925 حضر إلى العراق مندوب من قبل الجمعية الصهيونية في فلسطين، لغرض تأسيس وكالة صهيونية ونادٍ ومدرسة في العراق، هدفها ترويج مبادئ الصهيونية في فلسطين لدى الجيل الناشئ، وبث الدعاية للهجرة.
هال هذا الأمر الطائفة اليهودية، فاجتمع وجوهها وتباحثوا في النتائج الوخيمة التي يمكن أن تؤول إليها هذه الفكرة، وقرروا إرسال وفد لمراجعة المندوب السامي بهذا الخصوص.
ولكن المثير للدهشة كان تبني الحكومة العراقية ذاتها لهذا المشروع الذي غرس نواة الصهيونية في العراق؛ فقد أجازت الحكومة تأسيس وكالة صهيونية ونادٍ ومدرسة، وهذه تقوم بدورها في الدعاية لترويج وتحبيذ الصهيونية في العراق، بل إن المعتمد الذي عينته الوكالة الصهيونية في العراق كان معترفًا به رسميًا (كأنما هو سفير إسرائيلي في الدول العربية اليوم)، وكانت دائرة السفر والجنسية لا تعطي جواز سفر إلى فلسطين إلا إذا صادق المذكور على هذا الجواز المعتمد.
ويتابع مؤلف الكتاب أنه في الوقت ذاته اتخذت الحكومة العراقية تدابير معاكسة، تنشر الدعاية ضد الصهيونية في المدارس الرسمية، وفي وحدات الجيش وفي المطبوعات. ولم تقم الحكومة العراقية بإلغاء الإجازة للوكالة الصهيونية إلا عام 1935، أي بعد اثنتي عشرة سنة من تأسيسها، وكان ذلك استجابة لاحتجاجات الطائفة اليهودية في العراق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.