سقط النظام الأسدي في سوريا بعد احتلال للسلطة دام أكثر من نصف قرن، ولكن سقوطه لم يكن بالأمر السهل، بل دُفعت مقابله فاتورة ضخمة، لم يتكبدها الشعب السوري فحسب، بل إن النظام أصرّ على أن يدفع الحجر في سوريا فاتورة أخرى، ولكنها من نوع آخر.
كثيرةٌ هي الأحلام التي راودت أذهان السوريين في هذا اليوم، وكلٌ حسب حاجته، فلم يكن للأم السورية أمل أبعد من أن ترى ابنها المعتقل خارجًا من السجون الموحشة
يوم التحرير
صباح يوم الأحد، 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، اشتعلت الأفراح، وعَلت الزغاريد، وأُطلقت التكبيرات في المساجد وكأنه أول أيام العيد، وغصّت الشوارع والساحات بالسوريين فرحًا بالنصر، ولم يغب صوت الرصاص عن المشهد، لكنه كان رصاصًا مختلفًا عمّا عهدناه طوال سنوات الثورة.. نعم، إنه رصاص النصر.
كثيرةٌ هي الأحلام التي راودت أذهان السوريين في هذا اليوم، وكلٌ حسب حاجته، فلم يكن للأم السورية أمل أبعد من أن ترى ابنها المعتقل خارجًا من السجون الموحشة، ولم يكن للأب السوري فرحة أوسع من عودة ابنه المغترب إلى وطنه، بعد سنوات من الغربة هربًا من الخدمة العسكرية، ولم يكن للأسرة السورية حلم أكبر من رؤية الخبر العاجل على التلفزيون السوري الرسمي معلنًا سقوط نظام الأسد.
كلية الإعلام في سوريا
عن نفسي، ربما كان حلمي في تلك اللحظة أفقر من حلم غيري، أو ربما لقسوة أحلام غيري بدا حلمي صغيرًا؟ لا أدري..
أنا مواطنة أحمل الجنسية السورية، لم أغادر بلادي مطلقًا، وأبعد مكان زرته خارج دمشق ربما كان حمص، كان هذا عام 2010. والسنة التي اندلعت فيها الثورة السورية (2011) كانت سنة دراسية مفصلية بالنسبة لي، كانت سنة (البكالوريا)، التي يتحدد من خلالها المستقبل المهني للطالب في سوريا، كان تخصص كلية الإعلام من أعلى التخصصات من حيث الدرجات المطلوبة لدخوله، حيث إن التحاق الطالب بكلية الإعلام يستوجب ألّا ينقصه من المجموع العام سوى ثلاث درجات، لذا عملت ما بوسعي لدخول الكلية التي أحب، ولتحقيق حلم طفولتي.
نعم فعلت، اجتهدت كثيرًا حتى استطعت دخول كلية الإعلام في دمشق، كان شعورًا يصعب وصفه، بدا وكأنه نصر في معركة صعبة لفتاة لم يتجاوز عمرها بعد 18 عامًا، لا أنكر أنها كانت من أكثر الكليات اعتناءً من حيث البناء، كانت مميزة بشكلها الخارجي، وأما من الداخل فعلى العكس!
إن الاستغلال المادي كان الوجه الأكثر قساوة من قبل المواقع الإلكترونية السورية، فأصحاب العمل – وبسبب ندرة فرص العمل لخريجي كلية الإعلام- كانوا يستغلون موظفيهم برواتب زهيدة!
الخيبة الأولى
ربما كانت أول خيبة أمل بالنسبة لي في الفصل الثاني من العام الدراسي الأول، حينما أُخذ من ملاك كلية الإعلام مبنى آخر كان يجاورها، مخصص للتدريبات العملية للطالب، يحتوي على أستوديو وبعض التجهيزات الفنية التي كانت معدّة لتدريب الطلاب، لم أدخله سوى مرتين خلال الفصل الدراسي الأول، حتى قررت الحكومة السورية حينها الاستيلاء على المبنى بتجهيزاته، وتحويله إلى مبنى لبث قناة (الإخبارية السورية) بالكامل.
لم نكن نصدق – أنا ومن هم في دفعتي- أننا في كلية الإعلام، ذلك الاختصاص العملي، وأنه لن يكون في مقدورنا التدريب عمليًا، أو حتى النظر إلى الأستوديوهات ولو من بعيد، فتحولت الدراسة إلى مقررات نظرية فقط، نحفظ ثم نذهب للامتحانات الكتابية.
حتى ذلك التاريخ، لم تنطفئ لدي الرغبة في إتمام الدراسة في هذا التخصص، كنت أشعر أنها مجرد صعوبات وستمرّ!
رحلة البحث عن العمل
بعد سنوات عدة، تزامنت معها أبشع المعارك في سوريا، وتواصل القتال السوري- السوري، استطعت التخرج عام 2016، وبدأت رحلتي في البحث عن فرصة عمل، لم يكن الأمر سهلًا لكافة خريجي الجامعة بكافة الاختصاصات، ولا ننسى أن البلد حينها كان في حالة حرب قاسية، إلا أن الأمر بدا أكثر صعوبة لخريجي كلية الإعلام.
لا يخفى على السوريين أن فرصة العمل لدى الإعلام الرسمي صعبة جدًا، وهي حكر على فئة معينة، ولا تتطلب الخبرة والكفاءة ولا حتى الدراسة الأكاديمية، بل يكفي أن تعرف أحدًا من أصحاب الشأن ليقوم بدوره بوضعك في المكان الذي ترغب وبـ (الواسطة)!
لم ألجأ لهذا الأسلوب، وهذا الخيار لم يكن مطروحًا لدي أصلًا، فأنا لا أعرف أحدًا من السلطة.. فضلت العمل في الإعلام الخاص، فعملت محررة صحفية لدى عدة مواقع إلكترونية سورية، تعمل على نقل الأخبار وتغطية الأحداث والفعاليات، كان ذلك مقبولًا بالنسبة لي كخريجة جديدة، إلا أن الاستغلال المادي كان الوجه الأكثر قساوة، فأصحاب العمل – وبسبب ندرة فرص العمل لخريجي كلية الإعلام- كانوا يستغلون موظفيهم برواتب زهيدة!
بعد عدة محاولات فاشلة، قررت العمل بعيدًا عن الإعلام، وبدأت بالعمل لدى شركات سورية تعمل بمجالات مختلفة تمامًا، واستمررت بذلك حتى سقوط النظام وإحياء الأمل من جديد.
ربما هي المرة الأولى التي أتجرأ فيها بإرسال مدونة لشبكة الجزيرة، تلك الشبكة التي كان محرّمًا علينا حتى تصفحها، لمجرد أنها تنقل الرأي الآخر، وتصوّر المشهد من الزاوية المقابلة للعدسة
بعد التحرير
نعم، هو أول حلم تبادر إلى ذهني عندما سقط نظام الأسد، هل سيمكنني أخيرًا الالتحاق بالمجال الذي درست؟! هل ستتخلص سوريا من المحسوبيات الظالمة التي لطالما أبعدت السوريين عن مجالاتهم وأحلامهم؟! هل سنرى في سوريا انفتاحًا إعلاميًا يتسع لطاقات الشباب السوري؟! وأخيرًا، هل ستخطو الشبكات الإعلامية العربية الكبرى خطوتها الأولى لتؤسس أستوديوهات معتمدة، تبث من الداخل السوري؟!
ربما هي المرة الأولى التي أتجرأ فيها بإرسال مدونة لشبكة الجزيرة، تلك الشبكة التي كان محرّمًا علينا حتى تصفحها، لمجرد أنها تنقل الرأي الآخر، وتصوّر المشهد من الزاوية المقابلة للعدسة، تلك العدسة التي أجبرنا نظام الأسد على ألا نرى المشهد إلا من خلالها، وعبر وسائل إعلامه حصرًا.
ربما لست مكتملة الجاهزية للنشر، لا بل إنني أواصل التعلم وأحتاجه، ولدي أخطاء كما لدى كثيرين غيري، ولكنني بمجرد قبول مدونتي، ونشرها في شبكة الجزيرة بتاريخها المهني الغني عن التعريف، ومواكبتها للحراك الثوري السوري منذ اللحظة الأولى، أكون قد خطوت أول خطوة عملية حقيقية في المجال الإعلامي، وأرفق ذلك بسيرتي الذاتية بكل فخر، لا بل أعتبره تتويجًا لسنوات طويلة من العجز المزمن، تحولت فيها أحلامي إلى ذكريات يصعُب نسيانها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.