شعار قسم مدونات

دفاع عن تجربة درويش الشعرية

Blogs- محمود درويش
الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (الفرنسية)

انتشرت مؤخرًا بين الأوساط الأدبية في وسائط التواصل الاجتماعي آراء، تسعى إلى الحط من قيمة تجربة محمود درويش الشعرية، مستندة في ذلك إلى اقتباسات منتقاة يتم انتزاعها من سياقها، لتبدو بلا معنى أو عمق، وهو ما لا يمكن اعتباره مجرد محاولات بسيطة في نقد تجربة شعرية، بقدر ما ينبغي النظر إليه بوصفه محاولة للتقليل من قيمة شاعر ومسار إنساني، استطاع أن يساهم في تشكيل وجدان أمة بأكملها، وأن يكون صوتًا خالدًا وكونيًا معبّرًا عن قضاياها الوجودية والإنسانية.

استحضار تجربة محمود درويش، والدفاع على مكانتها اليوم، ليس مجرد استعادة لذكرى أو مسار، بل تأكيدًا على أن الشعر مطبوع بالاستمرارية والتجدد

إن تجربة محمود درويش تتجاوز حدود الشعر لتلامس قضايا أعمق تتعلق بالهوية، والانتماء، والمنفى، والأمل، وهي قضايا تحتل مكانة مركزية في الوجدان الفلسطيني والعربي والإنساني بشكل عام، خاصة في سياق مطبوع بالتأزم كالذي نعيشه اليوم، كما استطاع ضمنَ تيار يضمُّ شعراء زامنوه، أن يحرر اللغة من قيودها، وأن يدفع بالشعر إلى فضاءات جديدة تتداخل فيها الذات بالوطن، والواقع بالأمل وبالمُنتظَر، والتاريخ بالحاضر وما هو آت.

ولعل الحديث عن درويش يتطلب منا النظر إلى شعره بوصفه لحظة من لحظات التجديد، التي تعكس التطور الدائم للغة، كيفما كانت هذه اللغة، والشعر، باعتبارهما شكلين من أسمى أشكال التعبير الإنساني. فلقد تمكنت تجربته من استلهام الحداثة دون أن التخلي عن الجذور والأصول، ومن استثمار التراث دون أن يقع في فخ التقليد. ومن هنا، فإن فهم تجربته يتطلب الغوص في السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي أحاط به، والذي أسهم في تشكيل ملامح مساره.

إعلان

إن الدفاع عن تجربة درويش الشعرية هو دفاع عن حرية الشعر في أن يكون فضاءً مفتوحًا للتأمل والتعبير عن الذات، دون قيود أو أحكام مسبقة؛ فرؤية الشاعر للعالم لم ولن تكون جامدة أو محصورة في إطار ضيق، بل ينبغي لها أن تكون دائمًا في حالة حوار مستمر مع الآخر، ومع التحولات التي يشهدها الواقع.

وعليه فإن استحضار تجربة محمود درويش، والدفاع على مكانتها اليوم، ليس مجرد استعادة لذكرى أو مسار، بل تأكيدًا على أن الشعر مطبوع بالاستمرارية والتجدد، وعلى أن رجع صدى الشاعر يظل دائما قادرًا على التأثير رغم محاولات التقليل والحط والتبخيس.

الشعر عند درويش لم يكن مجرد أداة تعبيرية ذات بعد جمالي، بل كان صوتًا يعكس معاناة فردية وجماعية متشابكة، صوتًا نابعًا من تجربة شخصية ووجودية، مرتبطة بتاريخ طويل من الألم والنفي والتشريد

محمود درويش ابن النكبة وما تلاها

لا يمكن فهم شعر محمود درويش دون استرجاع أهم لحظات التاريخ الفلسطيني الحديث، خاصةً أحداث النكبة عام 1948، التي لم تكن مجرد حدث سياسي أو عسكري عابر، بل كانت زلزالًا هزّ كيان الشعب الفلسطيني بأسره، ليشكل وجدانه الذي به يحيا اليوم، فالنكبة لم تكن فقط فقدان الأرض، بل كانت أيضًا فقدان الهوية، والذاكرة، والحلم.

محمود درويش، الذي وُلد في قرية البروة في الجليل عام 1941، كان واحدًا من أبناء هذا الجيل الذي عايش النكبة وعاش تبعاتها المباشرة. وعندما هُجّر درويش وعائلته من قريته عام 1948، كان لا يزال طفلًا صغيرًا، لكن هذه التجربة المريرة تركت أثرًا عميقًا في نفسه وشِعره؛ فلقد أصبحت النكبة جزءًا لا يتجزأ من وعيه الشعري، حيث تحولت فلسطين في قصائده إلى رمزٍ للحنين والألم، والحلم بالعودة، وهو ما يتجلى في قصيدته الشهيرة "بطاقة هوية"، حين يصرخ في وجه الاحتلال، مؤكدًا هويته الفلسطينية رغم كل محاولات الطمس والإلغاء!. يقول: "اكتبْ! أنا عربي… ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألف".

إن استحضار تجربة محمود درويش الشعرية لا يمكن أن يكون مكتملًا دون النظر في الظروف التي صنعت وعيه الأدبي، والتي شكلت الخلفية العاطفية والفكرية لنصوصه؛ فالشعر عند درويش لم يكن مجرد أداة تعبيرية ذات بعد جمالي، بل كان صوتًا يعكس معاناة فردية وجماعية متشابكة، صوتًا نابعًا من تجربة شخصية ووجودية، مرتبطة بتاريخ طويل من الألم والنفي والتشريد. ومن هنا، فإن الغوص في عالمه الشعري يقتضي العودة إلى نقطة البداية، إلى الجرح الأول الذي لم يندمل، إلى النكبة التي شكلت وجدانه ووجدان جيل بأسره، وجعلت من قضيته قضية إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية.

انسلخ درويش من القواعد الشعرية المعروفة، لأنه أدرك أن التجربة الفلسطينية التي عاشها، والعالم الذي ينتمي إليه، لا يمكن التعبير عنهما بشكل كامل من خلال الأشكال التقليدية، التي قد تقيد الإحساس العميق بالاغتراب والمنفى والحنين

الحداثة في شعر درويش وتحرره من القواعد

تحررت تجربة درويش من القوالب التقليدية للقصيدة العربية؛ فلقد كان من الشعراء الذين سعوا إلى تحرير الشعر من قيود الوزن والقافية، دون أن يفقد موسيقاه الداخلية التي تجعل للقصيدة نبضها. ولم يكن هذا التحرر من القواعد مدفوعًا برغبة غير مبررة للتمرد على التراث، بل كان انعكاسًا لواقع جديد ومعقد، لا يمكن احتواؤه في قوالب قديمة.

إعلان

على ان استلهام درويش من رواد الحداثة الشعرية العربية، مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، اللذين كانا أول من كسر القيود التقليدية للشعر العربي، ذهب أبعد من ذلك، فقد استوعب بعض الملامح الغربية من الشعر العالمي الحديث، ما جعل نصوصه تتماهى مع تيارات مثل الرمزية والتعبيرية، لأنه كان يؤمن بأن الشعر هو الذي يحطم القوالب الجاهزة ليخلق قوالبه الخاصة، وهو ما يمكن لمسه بوضوح في أعماله التي جمعت بين التشبث بالبعد المحلي والتراثي للقضية الفلسطينية، والبعد الإنساني العالمي.

انسلخ درويش من القواعد الشعرية المعروفة، لأنه أدرك أن التجربة الفلسطينية التي عاشها، والعالم الذي ينتمي إليه، لا يمكن التعبير عنهما بشكل كامل من خلال الأشكال التقليدية، التي قد تقيد الإحساس العميق بالاغتراب والمنفى والحنين، خاصة مع ما يتيحه النمط الحر في الكتابة من قدرة واسعة على التعبير عن التداخل المعقد بين مفاهيم كبرى مطبوعة بالثنائية، كالوطن والهوية، والحاضر والماضي، والأمل والألم، لتكون بذلك القصيدة الحرة لديه وسيلة لرسم المشهد الفلسطيني بكل تناقضاته وأحلامه، ولإيصال صوته إلى العالم دون أن يكون أسيرًا للحدود الشكلية، بل منفتحًا على تجارب إنسانية أوسع.

لقد كان درويش يعي أن التحرر من القواعد لا يعني الفوضى، بل هو بحث مستمر عن شكل أكثر قدرة على استيعاب التحولات، وعن لغة أكثر مرونة تستطيع التعبير عن الذات الجمعية والفردية في آن واحد. ومن هنا، جاءت قصائده محملة بتجارب وجودية وإنسانية معقدة، تتجاوز المكان والزمان، وتفتح آفاقًا جديدة لفهم الشعر كأداة مقاومة، وكتوثيق حي للوجدان الإنساني والعربي والفلسطيني.

يأتي محمود درويش ضمن هذه السلسلة الطويلة من التغير المستمر في القصيدة العربية، الذي كان يفرض بشكل تدريجي تطويرًا مستمرًا للأدوات الشعرية بما يتناسب مع العصر

التجديد في الشعر العربي سِمة أصيلة من سماتِه

ليس التجديد في الشعري العربي ظاهرة حديثة، بل هو جزء من تاريخ الأدب العربي منذ كان؛ ففي الفترة الإسلامية الوسيطة، شهد الشعر العربي محاولات جريئة لتحديث بنيته، وتحريره من نمطية الشكل الجاهلي، خاصة مع شعراء مثل أبي نواس وأبي العلاء المعري، فأبو نواس -على سبيل المثال- جاء بالمقدمة الخمرية مجددًا في البنية الدلالية للقصيدة العربية، أما أبو العلاء المعري، فقد جعل من الفلسفة ركيزة أساسية لشعره، حيث طرح أسئلة وجودية عميقة حول الحياة والموت والإنسان.

إعلان

التجديد يمكن أن نلاحظه أيضًا في فترة متقدمة مع التجربة الشعرية الأندلسية، التي شهدت فيها القصيدة العربية طفرة أخرى من خلال إعادة بناء نمط جديد يعيد النظر في بنية القصيدة دلاليًا وإيقاعيًا وبنيويًا، وهو ما أدى إلى ظهور الموشحات التي كسرت نمط القصيدة العمودية.

يأتي محمود درويش ضمن هذه السلسلة الطويلة من التغير المستمر في القصيدة العربية، الذي كان يفرض بشكل تدريجي تطويرًا مستمرًا للأدوات الشعرية بما يتناسب مع العصر، وبما يكون قادرًا على التناسب مع أسئلة الإنسان وأشكاله التعبيرية وأنماط تفكيره.

الشعر ابن المعنى لا ابن الشكل، وهذه حقيقة تؤكدها التجارب الشعرية عبر مختلف الثقافات والأزمنة؛ فالجدل حول الشكل الشعري ليس مسألة مستجدة، أو حكرًا على الثقافة العربية وحدها، بل هو نقاش عالمي امتد ليشمل مختلف المدارس الأدبية، حيث يتكرر السؤال دائمًا: أيُعرَّف الشعر من خلال شكله أم من خلال معناه؟

ولقد شهدت الثقافة الغربية نقاشات مماثلة مع تجارب بارزة، سعت إلى تحرير الشعر من القوالب التقليدية. فالشاعر الأميركي والت ويتمان -على سبيل المثال- حرر الشعر من قيود الوزن والقافية، واعتبر أن الشعر يجب أن يعبر عن تعقيدات الحياة دون التقيد بأشكال محددة. أما الشاعر الفرنسي شارل بودلير، فقد أدخل قيمًا حداثية جديدة إلى الشعر الفرنسي متجاوزًا التقاليد الكلاسيكية الصارمة، وهو ما يثبت أن قضية الشكل والمعنى ليست محصورة في سياق ثقافي معين، بل هي جزء من التطور الطبيعي للإبداع الشعري في مختلف أنحاء العالم.

إن افتراض أن الشعر يجب أن يلتزم بشكل محدد منضبط للقواعد الشكلية العربية، يوحي ضمنيًا بأن النموذج العربي التقليدي هو النموذج الشعري الوحيد، وما عداه ليس شعرًا، وهو افتراض مجانب للواقع، حيث يثبت التاريخ الأدبي أن الشعر اتخذ أشكالًا متعددة وفقًا للثقافات المختلفة، ولم يكن يومًا محصورًا في قوالب ثابتة.

إعلان

ويبقى السؤال مطروحًا: أيُقيد الفن أم يُحرر؟ ولعل تجربة محمود درويش في كليّتها اقتراب من الجواب على هذا السؤال الكبير، فقد استطاع أن يُعبر عن فلسطين الأرض، وفلسطين الذات، وفلسطين الوجدان، بكل تحرر، دون أن يسقط في أسر التكرار والتقليد، كما استطاع أن يلامس الوجدان الإنساني دون أن يفقد أصالته، ليكون صوته صرخةً ضد الظلم، ودعوةً إلى الحرية، وحلمًا بمستقبل أكثر رحابة، وصدىً ما زال يتكرر، يدفعنا إلى الدفاع عنه وعن جدواه، لأنه صوت خالد تجاوز مُصدِرَه، ليصير ذاتا تعيش بيننا، تعبّر عن آمالنا ومخاوفنا، وتحيا بانسجام مع الواقع المأزوم الذي نعيش.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان