شعار قسم مدونات

خافيير ميلي.. الجنون في خدمة السياسة

الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي (غيتي)

بقصة شعره الفوضوية، المغرقة في الغرابة، وفظاظته المنفرة، يبدو رئيس الأرجنتين خافيير خيراردو ميلي نسخة منقحة ومزيدة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

لا غرابة في ذلك؛ فخافيير ميلي لا يخفي افتتانه بشخصية ترامب، ولا يجد حرجًا في استعارة شعاره الانتخابي الأشهر، فيعيده: "لنجعل الأرجنتين عظيمة مرة أخرى"، أو تبني نفس القضايا والشعارات التي يروج لها ترامب، من قبيل الدفاع عن حمل السلاح، وتشديد قوانين الهجرة وحظر الإجهاض.

وليس ميلي أقل تحمسًا لإسرائيل من ترامب؛ فهو لم يقف عند حد تصنيف حركة حماس ضمن خانة المنظمات الإرهابية، بل فاخر بأن الديانة اليهودية هي أقرب الديانات إلى قلبه وعقله!!

وقال إنه يعتزم اعتناق اليهودية وترك المسيحية. وحينما انتُخب رئيسًا زار القدس المحتلة، وشُوهد وهو ينتحب أمام حائط البراق وهو يعتمر قبعة يهودية.. وأسوة بعرّابه، ألغى ميلي الحظر الذي يمنع المسؤولين الحكوميين من تعيين أقاربهم في مناصب حكومية، فثبت شقيقته مارينا في منصب الأمين العام للرئاسة.

في بحثهم الدؤوب عن التغيير، وجد الأرجنتينيون في شخصية خافيير ميلي غريب الأطوار بديلًا عن السياسيين التقليديين، الذين فشلوا على مدار أربعين عامًا في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين

ليس التشبه بدونالد ترمب ما يجعل من ميلي شخصية متفردة في عالم السياسة، ولا حتى إعجابه بإيلون ماسك وزعيم المافيا الشهير آل كابوني، بل الصورة المشوشة التي نسجها لنفسه في مخيلة الناس، وإستراتيجيته المربكة في الوصول إلى السلطة.

إعلان

في منتدى دافوس، كرر ميلي مرة أخرى على مسامع قادة العالم ورواد المال والأعمال نظرياته الاقتصادية المثيرة للجدل؛ إذ حذر من الفكر الاشتراكي، وقال إنه يمثل خطرًا على الغرب، وروّج لرأسمالية السوق، وهي عنده الحل الوحيد القابل للتطبيق لمواجهة مشكلة الفقر.

يتفق المعلقون السياسيون في الأرجنتين على أن خافيير ميلي ليس شخصية سياسية تقليدية؛ فحينما عرفه الناس في العقد الثاني من الألفية، لم يخلُ ظهوره العلني من إثارة وعدوانية، ومن تطاول لفظي عبر شاشات التلفزيون على خصومه السياسيين، لم يسلم منه حتى مواطنه بابا الفاتيكان.

وحينما دخل معترك السياسية، رأى منه الناس ما لم يروه عند غيره!. ظهر مرة حاملًا منشارًا كهربائيًا في تجمع انتخابي، وفي إحدى المرات دمّر دمية تجسد البنك المركزي الأرجنتيني، واقترح إجراء سحب شهري لمنح راتبه لمواطن أرجنتيني بشكل عشوائي.. ذلك كله جعله يبدو أمام الناس كشخص مجنون، وهو لقب لازمه إلى يومنا هذا!!

لم يُعرف عن ميلي ميلٌ للسياسة ولا ولع بها، إذ كانت اهتماماته منصبة في ميعة شبابه على دراسة الاقتصاد، جراء انهيار سعر الصرف في الأرجنتين في أوائل الثمانينيات، فحصل على درجة البكالوريوس ودرجتَي ماجستير، وبدأ مسيرته المهنية في الأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص.

لكن في بلد أنهكته عقود من الأزمات الاقتصادية، وتندثر فيه الأحزاب السياسية بنفس السرعة التي تظهر بها، وجد خافيير ميلي نفسه في لجة تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة، مردها إلى فشل السياسات الاقتصادية. تبدّى ذلك جليًا في تخلف الأرجنتين ثلاث مرات عن سداد ديون بقيمة مئتين وستين مليار دولار، وارتفاع معدلات التضخم ونسب البطالة.

كان اليأس قد تسلل إلى نفوس الناس، وتبخرت آمالهم في التغيير والاستقرار السياسي.. حينها أطل خافيير ميلي برأسه في المشهد، وبدأ أولى خطواته في عالم السياسة بتأسيس تحالف يميني متطرف، أكسبه عضوية الكونغرس الأرجنتيني.

إعلان

في بحثهم الدؤوب عن التغيير، وجد الأرجنتينيون في شخصية خافيير ميلي غريب الأطوار بديلًا عن السياسيين التقليديين، الذين فشلوا على مدار أربعين عامًا في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.

كانوا بكل بساطة بحاجة إلى من يخلصهم من عذاباتهم. لذلك، لم يجد كبير عناء في التغلب بفارق كبير على خصمه، السياسي المخضرم واليساري الوسطي سيرخيو ماسا.

مع أن أوضاع الأرجنتين ليست أفضل حالًا مما كانت عليه في حقبة الحكومات اليسارية، فإن شعبية خافيير ميلي لم تتراجع، خصوصًا في أوساط الشباب، على نحو يبعث على الدهشة

حينما تسلم منصبه في ديسمبر/ كانون الأول عام 2023، وعد ميلي بتفكيك الوزارات الحكومية، وخفض الضرائب والعجز في موازنة الدولة، وإلغاء البنك المركزي، وتعزيز التجارة الحرة.

لم يكن مفاجئا أن تلقى أطروحات ميلي الجامحة والفوضوية قبولًا لدى عامة الناس، حتى خصومه من غير الليبراليين لم يُخفوا إعجابهم بنهجه السياسي الراديكالي، وكذلك فعل رموز اليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة.

ومع أن أوضاع الأرجنتين ليست أفضل حالًا مما كانت عليه في حقبة الحكومات اليسارية، فإن شعبية خافيير ميلي لم تتراجع، خصوصًا في أوساط الشباب، على نحو يبعث على الدهشة.

ورغم تحقيق الأرجنتين أول فائض في الموازنة العامة للدولة في الأشهر الستة الأولى من حكمه منذ ستة عشر عامًا، فإن معدلات الفقر ارتفعت إلى أكثر من خمسين بالمائة.

عندما أعلن ميلي رسميًا نيته الترشح للرئاسة ادعى أن كلبه كونان، الذي نفق عام 2017، هو الذي أوحى له عبر وسيط روحي بأن يخوض غمار انتخابات الرئاسة!

لم يفقد ميلي، ذو الرابعة والخمسين عامًا، ثقته في وجاهة قراراته، حتى بعد خروج الأرجنتينيين إلى الشوارع للاحتجاج على تدابير التقشف القاسية، التي أثرت على الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والبحث العلمي.

ولما اندلعت أعمال شغب عنيفة خارج الكونغرس في العاصمة بوينس آيرس، على خلفية إقرار تشريع مثير للجدل منحه سلطات تنفيذية واسعة، لم يتراجع أمام سيل الانتقادات التي كالتها له الصحافة والمعارضة، بل بدا أكثر إصرارًا على مواصلة "سياسة الصدمة"، لتغيير الأرجنتين وجعلها أكثر الدول ليبرالية في العالم.

إعلان

لا مؤنس لخافيير ميلي في وحدته سوى كلابه الخمسة، التي هي عنده بمثابة أبنائه، وصارت شاغل الناس يتندرون عليها في مجالسهم، إذ قاده ولعه بها إلى استنساخها، وأطلق عليها أسماء علماء اقتصاد أميركيين ليبراليين.

يقول الكاتب خوان لويس غونثاليث في السيرة الذاتية لخافيير ميلي بعنوان "الأحمق"، الصادرة عام 2022، إن ميلي مقتنع تمامًا بأن كلابه تستطيع تقديم المشورة له في مجالات مختلفة، حيث تعتبر بمثابة خزانة أفكار بالنسبة له، يستلهم الأفكار منها".

لم يقف جنون خافيير ميلي عند هذا الحد!. فحينما أعلن رسميًا نيته الترشح للرئاسة ادعى أن كلبه كونان، الذي نفق عام 2017، هو الذي أوحى له عبر وسيط روحي بأن يخوض غمار انتخابات الرئاسة!

فعلًا ما خاب من استشار!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان