تأتي تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول غزة وما يُعرف بـ "اليوم التالي للحرب" في سياق معقّد، يتزايد الضغط فيه على إسرائيل بعد فشلها في تحقيق أهدافها العسكرية في غزة، إلى جانب الكارثة الإنسانية التي يعيشها القطاع، والتي أثارت موجات من الغضب العالمي، دفع الإدارة الأميركية إلى البحث عن حلول تحاول أن تُخفف من تداعياتها دون المساس بالمصالح الإسرائيليَّة.
وفي هذا الإطار، برزت مقاربة ترامب التي تتبنَّى فكرة التهجير القسري للفلسطينيين من غزة، متذرعة بأسباب إنسانية وأمنية. وهي رغم عدم إعلانها رسميًا كخطة أميركية معتمدة، فإنها تتلاقى مع خطابات وأطروحات إسرائيلية متكررة حول "ضرورة إيجاد حل جذري لغزة"، وهو ما يثير مخاوف حقيقية حول إعادة إنتاج سيناريو النكبة بطريقة جديدة ذات طابع أكثر مقبوليَّة لدى المنتظم الدولي.
تحولات الخطاب الأميركي بعد الفشل العسكري الإسرائيلي
ومع تزايد الإدانات الدولية والاحتجاجات داخل الولايات المتحدة نفسها ضد السياسات الإسرائيلية، بدأ الخطاب الأميركي يأخذ منحى جديدًا قائمًا على تفكيك القضية الفلسطينية إلى أبعاد إنسانية منفصلة عن سياقها السياسيّ.
فلم يعد الحديث يتركز على العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة، بل تحوّل إلى "أزمة إنسانية تتطلب حلولًا دولية"، في سعي واضح نحو إضعاف الرواية الفلسطينية من خلال تهميش الفاعل الأساسي، أي الاحتلال الإسرائيلي، والترويج لصورة غزة على أنها منطقة منكوبة، بسبب ظروف الحرب، وليس نتيجة سياسة عدوانية ممنهجة.
إلى جانب ذلك، تم تكثيف استخدام مصطلحات ذات طابع "تقني" مثل "الإخلاء الإنساني" بدلًا من التهجير القسري، ما أدى إلى خلق التباس في التصور العام، قادرٍ على خلق مساحة واسعة تحت تصرف الإدارة الأميركية للتلاعب بالمواقف الدولية، يتم فيها تقديم تهجير الفلسطينيين على أنه مجرد "إعادة توطين"؛ لتخفيف معاناتهم، بدلًا من تسميته بما هو عليه، أي جريمة تهجير قسري.
الإستراتيجيات الخطابية وآليات التلاعب اللغوي والتواصلي
على أن هذا التحول الأميركي ليس مجرد تبدُّل في الموقف السياسي فحسب، بل هي إستراتيجية خطابية تقوم على أسس لغوية وخطابية وتواصلية تُعيد تشكيل الوعي الجمعي، مما يسهم في خلق بيئة متقبلة لفكرة التهجير كحل مشروع.
وتقوم هذه المقاربة على أدوات لغوية دقيقة تُعيد صياغة المفاهيم بطريقة تُضعف الرواية الأصلية، وتمنح الشرعية لخطاب التهجير من خلال تلاعب مدروس بالمصطلحات والتأطير الإعلامي.
إن أي انتقاد لمقترحات التهجير يُواجه بهجوم حادّ يُشكك فيمن يتبنّاه، عبر وصفه بدعمِ الإرهاب أو مناهضة السلام مما يخلق مناخًا من الخوف والتردد يمنع السياسيين والإعلاميين، والنخب عمومًا، من تبني خطاب مضاد خشية التعرض للهجوم أو فقدان الشرعية السياسية
إستراتيجية التأطير المعرفي
يتم فيها تقديم النزوح الفلسطيني على أنه خيار إنساني عبر الإشارة إلى أن "غزة لم تعد قابلة للحياة"، مما يجعل الهجرة تبدو وكأنها الحل الوحيد المتاح، لتسوق هذه المقاربة تهجير الفلسطينيين بوصفه مسألة لوجيستية وليست سياسية أو قانونية.
إستراتيجية التبسيط الإجرائي
يتم تفكيك القضية إلى عناصر جزئية مجرّدة عن سياقها التاريخي والسياسي، مثل نقص الغذاء والدمار وغياب الخدمات الصحية، دون الإشارة إلى أن هذه الأوضاع هي نتيجة مباشرة للعدوان والحصار الإسرائيليين، وبهذه الطريقة، يتم تحويل القضية إلى مجرد أزمة إنسانية تتطلب تدخّلًا إداريًا لا حلولًا سياسية.
إستراتيجية التطبيع مع الاستثناء
يقدم الخطاب الأميركي التهجير كإجراء مؤقت و"خيار اضطراري"، مع الإيحاء بأنه سيكون تحت إشراف دولي لضمان حقوق النازحين، رغم أن التجربة التاريخية تشير إلى أن مثل هذه التدابير تصبح دائمة بمرور الوقت. وتستدعى لأجل ذلك حالات مماثلة، مثل النزوح السوري، لإيجاد مبررات تُعطي الانطباع بأن التهجير ليس سابقة خطيرة بل جزءًا من ديناميات الأزمات والحروب المعاصرة.
إستراتيجية الهجوم الاستباقي
إن أي انتقاد لمقترحات التهجير يُواجه بهجوم حادّ يُشكك فيمن يتبنّاه، عبر وصفه بدعمِ الإرهاب أو مناهضة السلام مما يخلق مناخًا من الخوف والتردد يمنع السياسيين والإعلاميين، والنخب عمومًا، من تبني خطاب مضاد خشية التعرض للهجوم أو فقدان الشرعية السياسية.
إستراتيجية الإغراق المعلوماتي
تعتمد ضخ روايات متناقضة حول مستقبل غزة في وسائل الإعلام، حيث يتم الحديث عن إعادة الإعمار بالتوازي مع مقترحات التهجير، مما يؤدي إلى خلق حالة من الفوضى المعلوماتية التي تربك الرأي العام وتضعفه أمام الرواية الرسمية.
إن هذه الأساليب الدعائية والخطابية المركبّة التي تسعىَ إلى إعادة تشكيل الواقع، لا بد معها من إعادة ضبط الخطاب بحيثُ يكون قادرًا على كشف حقيقة ما يجري بدلًا من الانجرار إلى المصطلحات التي تفرضها الأطراف المسيطرة على السردية.
ولا بد لأجل ذلك من إعادة التعريف بالقضية بلغة واضحة تستعيد جوهرها الحقيقي، فغزة ليست مجرد "أزمة إنسانية" بل هي جزء من قضية استعمارية ممتدة، وما يُطرح على أنه "إعادة توطين" ليس سوى تهجير قسري مغلف بلغة جديدة مدروسة الأسس، تحاول أن تحلّ محل الخيار العسكري الذي لم ينجح في تجاوز عقبة غزة.
إننا إزاء معركة تواصلية دعائية ولغوية خطابية لا تقلّ أهمية عن المعركة العسكرية، إن لم تكن أكثر خطورة؛ إذ تُخاض في ساحات الوعي والإدراك، التي تُشكّل فيها الكلمات والمصطلحات والخطابات واقعًا جديدًا قد يبتعد أحيانًا بالمتلقي عن الحقائق الثابتة
إلى جانب ذلك، تجدُ القضية نفسها أمام الحاجة الملحّة إلى فضح التناقضات في الخطاب الغربي من خلال استدعاء المواقف الواضحة التي تكشف ازدواجية المعايير: حين يتم رفض أي محاولة لتهجير الأوكرانيين بشكل قاطع والنظر إليها بوصفها جريمة، بينما يُنظر إلى التهجير القسري للفلسطينيين كحل قابل للنقاش، وتسليط الضوء على هذه المفارقات يساعد في كسر الهالة الأخلاقية التي تحيط بالخطاب الأميركي في مثل هذه القضايا.
إن إعادة تقديم القضية ضمن إطارها القانوني والحقوقي يُعتبر الأداة الوحيدة لتقويض هذه السرديات المضللة. بدلًا من الدخول في سجالات عاطفية تقوم على التبرير، فمن الضروري جدًا اليوم، التمسك بلغة القانون، حيث إنَّ الاتفاقيات الدولية تنصُّ بوضوح على أن التهجير القسري جريمة حرب لا تقبل النقاش، وكلما كان الخطاب الفلسطيني أكثر استنادًا إلى المعايير الدولية، قلّت قدرة الطرف الآخر على التلاعب بالتصورات عبر الأساليب الخطابية واللغوية الملتوية.
وعطفًا على ذلك، لا يمكن تجاهل أهمية امتلاك الآليات الإعلامية القادرة على تفكيك هذه السرديات وإيصال الحقائق بلغة بسيطة وسهلة الفهم، من خلال تشجيع الإنتاج البصري والنصي القادر على فضح الآلة الدعائية الأميركية الساعية لتبرير ما لا يمكن تبريره، ثم تجاوز ذلك، في مرحلة متقدمة، إلى تقديم خطابٍ بديل أكثر وضوحًا وقوة وتماسكًا، قادرٍ على إعادة الأمور إلى سياقها الحقيقي، بعيدًا عن الالتواءات التي تحاول فرضها القوى المهيمنة على الخطاب الدولي.
إننا إزاء معركة تواصلية دعائية ولغوية خطابية لا تقلّ أهمية عن المعركة العسكرية، إن لم تكن أكثر خطورة؛ إذ تُخاض في ساحات الوعي والإدراك، التي تُشكّل فيها الكلمات والمصطلحات والخطابات واقعًا جديدًا قد يبتعد أحيانًا بالمتلقي عن الحقائق الثابتة. وإن مواجهة هذه التحديات تتطلب أكثر من مجرد ردود أفعال عابرة تكتفي بالاستقبال والردّ، لكنها تتطلب السعي نحو تنزيل إستراتيجيات تواصلية مدروسة تعيد بناء الروايات وتصحح المفاهيم المغلوطة، وتؤكد على الثوابت الإنسانية والقانونية التي لا يمكن المساومة عليها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.