شعار قسم مدونات

تهافت الرؤى الإلحادية في مسألة ظهور الأديان

افترض دارون أن جميع الكائنات الحية قد جاءت من أصل واحد مشترك وهذا الأصل الأول مَرّ بعمليات تطور وتنوع هائلة (مواقع التواصل)

يرتكز المجتمع الإلحادي على اختلاف طوائفه في تفسير نشأة الديانات على الرؤى والأفكار، التي جاءت بها نظرية التحليل النفسي ورائدها عالم النفس سيجموند فرويد (ت:1939م)، ونظرية التطور للعالم تشارلز داروين (ت:1882م).

وهاتان النظريتان تمثلان خارطة الطريق التي يسير عليها مجتمع الإلحاد في تفسير ظهور الدين في حياة الشعوب. وسوف نقدم في هذه المدونة مناقشة تحليلية نقدية لهذه الرؤى، وبيان تهافتها، وسذاجتها، وعدم صمودها أمام البراهين العلمية.

يعزو فرويد فكرة الدين والإله إلى قصور عقل الإنسان عن فهم عالم الطبيعة، وما ينجم عنه من مخاطر وكوارث، ومن ثم فالإله والدين – كما يزعم – تحقيق لرغباتنا الطفولية في الحماية والأمان

فرويد ونظرية الإسقاط

تقوم مسألة نشأة الأديان عند فرويد على أساسين نفسيين رئيسين؛ هما الخوف من الطبيعة، والشعور بالذنب. ففي الأساس الأول يرى فرويد أن المخاطر والتهديدات التي واجهت الإنسان البدائي دفعته إلى البحث عن الأمان، ومن ثم محاولة الارتباط بالعوالم الغيبية، وتحديدًا القول بالإله الغيبي.

وبالتالي فإن فرويد يعزو فكرة الدين والإله إلى قصور عقل الإنسان عن فهم عالم الطبيعة، وما ينجم عنه من مخاطر وكوارث، ومن ثم فالإله والدين تحقيق لرغباتنا الطفولية في الحماية والأمان.

ووفقًا لهذا المعنى، نجد أن فرويد يُسقط احتياجنا لحماية آبائنا في طفولتنا على الإله الذي افترضنا وجوده في السماء، وهذه الرؤية طرحها فرويد في كتابه "مستقبل توهم".

إعلان

أما الأساس الثاني فقد بيّنه فرويد في كتابه "الطوطم والتابو" من خلال ظاهرة "الشعور بالذنب"، والتي قام بشرحها من خلال "عقدة أوديب".

ويُفسر فرويد "عقدة أديب" بأن المجتمعات البدائية كان يغلب عليها الطابع القبلي، وكان الأب (رئيس القبيلة) مستبدًا في سلطته؛ وكان يستحوذ على نساء القبيلة، ويمنعهن أبناءه الذكور عندما يكبرون، فكانت النتيجة أن تحالف أبناؤه على قتله، وبقتل الأب تمثّل به الأبناء، وأخذ كل منهم قدرًا من سلطانه، لذلك، وضع الإنسان في الديانات التي ابتكرها طقوس "تقديم الأضحيات" والأكل منها، وجعلوا من الأب طوطمًا يتوجهون إليه بالتقديس.

تهافت الرؤية الفرويدية

كشف د. عمرو شريف في كتابه البديع "الإلحاد مشكلة نفسية" زيف الادعاءات التي بُنيت عليها نظرية الإسقاط التي قدمها فرويد؛ حيث أشار إلى أن الباحثين أثبتوا خطأ نظرية فرويد، وذلك لعدة أسباب أهمها أن علماء الأنثروبولوجيا أثبتوا عدم صحة المفاهيم، التي فسّر بها فرويد نشأة الديانات من خلال عقدة أديب.

فقد ثبت أن القبائل البدائية لم تقم على نظام القبيلة التي يستحوذ رئيسها على كل نسائها، وأيضًا قلة وجود المرحلة الطوطمية في ديانات القبائل البدائية، كما أن نمط الإله الأب لم يكن موجودًا إلا في الطرحين؛ المسيحي واليهودي. فكيف سيفسر فرويد نظريته في ضوء العلاقة بين الأب والرب في الإسلام؟ وفي هذا الصدد يشير بول فيتز في كتابه "علم نفس الإلحاد" إلى أن موقف فرويد من الدين "موقف شخصي" لا يَمُت للعلم بصلة.

وفقًا للرؤية الداروينية يُقيم الملاحدة موقفهم من قضية الدين، ووجود الإله؛ حيث اعتبروا أن هذه النظرية قد قضت على فكرة الألوهية برمّتها، وعلى الرغم من النقد الواسع الذي تعرضت له نظرية التطور، فإنها أصبحت مهيمنة على الساحة العلمية الغربية

لماذا يتشبث الملاحدة بنظرية التطور لداروين؟

افترض داروين أن جميع الكائنات الحية قد جاءت من أصل واحد مشترك، وهذا الأصل الأول مَرّ بعمليات تطور وتنوع هائلة، بحيث يتغير الكائن الحي تغيرات بسيطة تراكمية عبر الزمن، والطبيعة تقوم بعملية غربلة؛ حيث تبقي الطبيعة عبر آلية "الانتخاب الطبيعي" التغيرات المفيدة، والتي ينتج عنها نوع جديد من الكائنات، بينما قضت الطبيعة على التغيرات غير المفيدة "الضارة".

إعلان

ولم يتوقف داروين عند هذا الحد، بل أكد أن هذا التنوع الهائل في الكائنات الحية وليد العشوائية والصدفة.

ووفقًا لهذا الرؤية الداروينية يُقيم الملاحدة موقفهم من قضية الدين، ووجود الإله؛ حيث اعتبروا أن هذه النظرية قد قضت على فكرة الألوهية برمّتها، وعلى الرغم من النقد الواسع الذي تعرضت له نظرية التطور، فإنها أصبحت مهيمنة على الساحة العلمية الغربية، وأصبح من يخالف تعاليمها موصوفًا بالجهل.

وفي حقيقة الأمر، لم يكن موقف الملاحدة هذا مبنيًا على قوة الأدلة التي جاءت بها نظرية التطور، بل لأن البديل الآخر هو "الخلق الخاص"، الذي يعتبره الملاحدة غير قابل للتصديق؛ لأنهم ينطلقون من رؤية كونية، تسعى لتفسير كل شيء في إطار المسببات المادية الطبيعية كتفسير لنشأة الحياة وتنوعها.

وقد عبّر عن هذا الموقف أحد التطوريين بقوله "حتى لو كانت جميع المعطيات تشير إلى مصمم ذكي، فإن فرضية كهذه يجب استبعادها من العلم؛ لأنها تمثل نظرة غير مادية".

تهافت الرؤية الداروينية

لم يكن تأثير نظرية التطور قاصرًا على المجالات العلمية، بل امتد تأثيرها إلى مجالات أخرى، حتى إن بعض الأحزاب السياسية وجدت في هذه النظرية المسوغ الذي يُبرر لها عمليات الإبادة، والقتل.

 تهافت أدلة الملاحدة، وعدم صمودها أمام براهين العلم، يكشف أن قضية الإيمان بالله، ونشأة الأديان، لم تكن مجرد توهمات كما افترض فرويد، ولم تكن إفرازًا عبثيًا لسلسلة الارتقاء والتطور الدارويني، ولم يتبقَ إلا القول إن الأديان منحة إلهية، من خلالها استطاع الإنسان أن يتعرّف على خالقه، وأن يعبده على علمٍ وبصيرة

فما قامت به الشيوعية، والفاشية، والنازية ما هي إلا تطبيقات عملية للداروينية، التي تؤسس لمبدأ "البقاء للأصلح". وسوف نستعرض في هذا المحور أهم الاعتراضات التي قدمت في بيان تهافت الأدلة التي استندت إليها نظرية التطور.

أشار عبد الله العجيري في كتابه "شموع النهار" إلى أحد الاعتراضات الطريفة، التي ذكرها اللاأدري ديفيد بيرلنسكي: تخيل أنك أردت أن تجعل من البقرة مثلًا كائنًا صالحًا للعيش في الماء، كم عدد التغييرات التي يجب أن تحدثها في تلك البقرة من أجل تكون كائنًا مائيًا؟ ستحتاج إلى إحداث تغييرات كثيرة جدًا في الجهاز التنفسي والهضمي وفي الجلد… إلخ.

إعلان

يقول: لنفترض أن التغييرات التي نحتاج إحداثها ليست كثيرة، بل مائة تغيير فقط، يمكن أن تشكل المسافة الفاصلة بين ذلك الحيوان الأرضي، والحيوان البحري.. إن الأمر أشبه بتحويل سيارة إلى غواصة، عدد التغييرات المطلوبة تكشف عن ضرورة وجود مائة حلقة بينية بين الطرفين، المشكلة أن السجل الأحفوري لا يساعد كثيرًا على تغطية هذا الكم الكبير من الحلقات البينية، وهذا ما يفرض مشكلة حقيقية مع الداروينية.

وقد ذكر د. عمرو شريف في كتابه "خرافة الإلحاد" أن "التعقيد غير القابل للاختزال" يمثل المسمار الأخير في نعش العشوائية الداروينية؛ وجاء هذا الاعتراض من قبل البيولوجي الأميركي مايكل بيهي في كتابه "صندوق داروين الأسود"، وتركز حجج بيهي ضد عشوائية التطور على أن الدارونة عجزوا عن أن يفسروا بالصدفة والعشوائية نشأة الآليات الجزيئية شديدة التعقيد في الكائنات الحية، والتي لا يمكن أن تنشأ عن طريق التعديلات البسيطة المتتالية شديدة البطء، التي يعمل من خلالها التطور الدارويني.

ومثال بيهي الأشهر هو "سوط البكتيريا" الذي يدفعه بحركته إلى الأمام مثل موتور القارب، ويشتمل سوط البكتيريا على ثلاثة أجزاء رئيسية تتكون من مئتي جزيء وبروتين، وإذا غاب أحد هذه البروتينات توقف النظام كله عن العمل، وهذا يعني أن هذه المنظومة استحدثت في هذا الكائن بشكل متكامل.

حصاد الرحلة

رأينا جميعًا مدى تهافت أدلة الملاحدة، وعدم صمودها أمام براهين العلم، وبيّنّا خلال رحلتنا أن قضية الإيمان بالله، ونشأة الأديان، لم تكن مجرد توهمات كما افترض فرويد، ولم تكن إفرازًا عبثيًا لسلسلة الارتقاء والتطور الدارويني، ولم يتبقَ إلا القول إن الأديان منحة إلهية، من خلالها استطاع الإنسان أن يتعرّف على خالقه، وأن يعبده على علمٍ وبصيرة. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [سورة الروم: 30].

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان