شعار قسم مدونات

"متلازمة ميمون" في علائق الحب وغوائله

أبو نُخيلة.. فحل من الشعراء جنى عليه لسانه - المصدر: الجزيرة الوثائقية
الكاتب: الأعشى هو الراصد الأول للظاهرة النفسية "متلازمة ميمون"، والواضع حقًا لها (الجزيرة)

اطلعت على تدوينة نقل صاحبها عن المذيع الأميركي المخضرم لاري كينغ قصته التي كان طرفًا فيها، ولأني أشعر بأن كثيرًا من مثقفينا لا يتأمل في تراثنا -خاصة الشعري منه-، ولا يعتبره مصدرًا لنظريات الأخلاق والفكر والتربية؛ لذلك السبب أردت أن أبين أن المذيع الأميركي المذكور ليس هو أوّل من رصد هذه الظاهرة، وسجلها في أدب مكتوب، بل إن الأعشى الكبير ميمون بن قيس، المعروف بـ"أعشى قيس"، أسس لهذا النظرية في قصيدته التي اعتبرها بعض النقاد القدماء إحدى المعلقات، ومطلعها:

ودِّع هريرةَ إن الركب مرتحل   وهل تطيق وداعًا أيها الـرجـل

يقول المذيع الأميركي: "ذات يوم في عيد الحب أعطتني فتاة تحبني خاتمًا؛ فأعطيت ذلك الخاتم لفتاة أحبها، وفي المساء وجدت الخاتم في يد صديقي المقرب، فسألته عنه، فقال لي: "إنه هدية من فتاة تحبّه، وهو يريد أن يعطيه لفتاة يحبها؛ فكانت محبوبته تلك الفتاة التي تحبني".

إذا كانت نظرية "شبكة ميمون" تأسست في سياق الحب بين الرجل والمرأة، فإنها في الحقيقة أعم وأشمل، فهي تنتظم كثيرًا من العلاقات البشرية؛ عاطفية كانت أو اجتماعية أو سياسية

لا تعدو قصة المذيع الأميركي أن تكون مصداقًا لصحّة النظرية الأخلاقية التي وضعها الأعشى لسلوك المحبين، وسيولة العلاقات العاطفية بين بني آدم، وهي التي عبّر عنها بقوله:

عُـلِّـقـتُها عـرضـًا وعُـلّقـتْ رجـلًا        غيري وعُلِّقَ أخرى غيرَها الرجلُ

إعلان

وعُــلِّـقـتْـهُ فــتــاةٌ مــا يـحــاولُـهــا        ومـن بـنــي عـمـها مَيْتٌ بها وهِـلُ

وعُـلِّــقـتـني أُخَـيْـرَى ما تـلائـمـني        فاجــتـمع الـحـب حـبٌّ كـلـه تـبِــلُ

فـكلُّــنـا مغــرمٌ يهــذي بصــاحـبِـهِ         نــاءٍ ودانٍ ومخــبــولٌ ومُـخــتـبـِلُ

وقد صارت هذه الأبيات مثلًا على شبكة العلاقات المعقدة، التي تمثل ظاهرة في المجتمع البشري، وعلى طبيعة في النفس البشرية تجعلها تتعلق بغير الموجود، وفي المثل: "أحب شيء إلى الإنسان ما مُنِعَه"، وكأن الأقدار الربانية تريد أن تبقي جرحًا عاطفيًا -ولو يسيرًا- في النفس البشرية، فلا يكتمل امتلاؤها ولا يتحقق اكتفاؤها إلا بالله.

ويمكن أن نسمي هذه النظرية (الحالة) "متلازمة ميمون"، وميمون بن قيس هو اسم الأعشى -كما سبق-، وإنما الأعشى لقبه، فهو الراصد الأول للظاهرة النفسية، والواضع حقًا للنظرية، وليس المذيع الأميركي لاري كينغ، الذي هو مجرد ضحية من ضحايا هذه المتلازمة التي لا يسلم منها إلا فلان وفلان!. اللهم إني أحد السالمين.

"متلازمة ميمون"، وهي ظاهرة بشرية عامة، وليست ظاهرة حب خاصة، ففي السياسة والثقافة والاقتصاد مصابون بهذه المتلازمة

وإذا كانت نظرية "شبكة ميمون" تأسست في سياق الحب بين الرجل والمرأة، فإنها في الحقيقة -كما أسلفت- أعم وأشمل، فهي تنتظم كثيرًا من العلاقات البشرية؛ عاطفية كانت أو اجتماعية أو سياسية.

ومن تطبيقات هذه النظرية في المجال السياسي ما قاله أبو حاضر الأسيدي -رحمه الله -، فقد وفد مع الأحنف بن قيس في وجوه من أهل البصرة على عبدالله بن الزبير – رضي الله عنهما – وكان أبو حاضر خطيبًا جميلًا، فقال له عبدالله بن الزبير: "اسكت، فوالله لوددت أنّ لي بكل عشرة من أهل العراق رجلًا من أهل الشام، صرف الدينار بالدرهم. قال: يا أمير المؤمنين، إن لنا ولك مثلًا، أفتأذن في ذكره؟ قال: نعم. قال: مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام، كقول الأعشى حيث يقول:

إعلان

عُـلِّـقـتُها عـرضـًا وعُـلِّـقـتْ رجـلًا      غيري وعُلِّقَ أخرى غيرَها الرجلُ

أحبك أهل العراق، وأحببت أهل الشام، وأحب أهل الشام عبدالملك بن مروان.

وقد تركت هذه النظرية أثرها في الشعراء من بعد الأعشى، لأنها عبرت عن معنى نفسي/ اجتماعي حقيقي، ووصفت ظاهرة بشرية عامة، ومن هؤلاء عديّ بن الرقاع العاملي، فقد قال وهو يتجرع مرارة الوقوع في "متلازمة ميمون":

تبلتـك أخت بني لؤيّ إذ رمت    وأصاب نبلك إذ رميت سواها

وأعـارها الحدثـان منـك مودّة     وأعـار غيـرك ودّها وهـواهـا

وقال آخر، وقد نسبها المستعصمي في الدر الفريد للمجنون:

جُنِنّـا على ليـلى وجُنّـتْ بغـيـرنـا      وأخـرى بنـا مجـنونة لا نريـدهـا

وكيـف يودّ الـقـلب مـن لا يــودّه      بلى قد تريد النفس من لا يريدها

وهو في البيت الأخير حيران يتخبط، يمارس المنطق العقلي، فيقول: "وكيف يود القلب من لا يوده"، ثم تدركه حاله الحاضرة، وقد رأى نفسه تقع في "متلازمة ميمون"، فلا يستطيع تكذيب الواقع، ولا رفض حال نفسه، فيقول معرضًا عن حكمه العقلي السابق: "بلى؛ قد تريد النفس من لا يريدها".

هذه "متلازمة ميمون"، وهي ظاهرة بشرية عامة، وليست ظاهرة حب خاصة، ففي السياسة والثقافة والاقتصاد مصابون بهذه المتلازمة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان