شعار قسم مدونات

بين فوبيا النحو وتطبيع العلاقات مع اللحن!

إذاعة مجتمعية
إذا لم يجئ المذيع بمنكر من اللحن، ولم يقترف ركيكًا من الأسلوب، فليس عليه جُناح فيما أخطأ به من لَمَم "لغة الصحافة" (الجزيرة)

"يتقدم الشاب الأنيق إلى وظيفة مذيع.. يقولون له: اقرأ هذه الفقرة، فإذا هو ينطق القاف كافًا والصاد سينًا.. ثمّ يرتكب بعد ذلك 20 غلطة نحوية في السطرَين، فيقولون له: إييييي؛ ما رأيك أن تعمل مساعد منتج؟! فيرفض، لا يريد أن يتخلى عن حلم المذيع!".

ليس هذا الكلام من عندي، ولهذا وضعته بين قوسين.. وقد اجتهدت في كتابته بالحروف والأرقام، بعد نقله من فم قائله جُذَيل اللغة والإعلام المكين: عارف حجاوي.. وليس عزو الفقرة والتجرد من ملكيتها الشخصية تنصلًا منها ولا تسفيهًا لها، حاشَ للأدب ومَعاذ المقام!

في مجال "التحرير الإعلامي" لا محيد -عمليًا- عن التبويب على محسّنات "الفنية الأسلوبية"، ويستحسن أن تكون مستخرجة من وعاء المحدَث اللفظي السليم؛ لا مستلّة من حقيبة الوضْع السقيم، ولا منتزعة من جِراب الترجمة الركيكة

ومن شاء فليضف -مِن عنده- إبدال حرف آخر مكان غيره، وليرفع الرقم كيف شاء، وليحدّث عن طوامّ اللحن النحوي والأداء اللفظي، ثم ليضف إليها ما شاء من مفارقات التشبع والاستطالة والإدلال بالنفس، على ألا يسقط من حسابه استحضار النِّسْبية والازورار عن التعميم!

ولكن ما لنا ولهذا الآن؟! فلنعد -فورًا- إلى العنوان أعلاه.. فبالتوازي مع آفة "تطبيع العلاقات" مع الخطأ اللغوي عمومًا -واللحن النحويّ خصوصًا- قد تنقلب الغيرة إلى إصر، حين تدخل "فوبيا اللحن" و"الارتهانية التراثية" على خطّ الأداء، جارّة معها محفظة "التصليح اللغوي" و"الحجْر التعسفي".

إعلان

ومن هنا، فإنني ألفت عناية المحرّرين والمدققين اللغويين إلى مراعاة العدل في إخضاع المذيع للقواعد، دون ميل إلى التساهل الأعمى، وعنوان التحدّي في هذا الباب الابتعاد عن التخفّف المفرِط، وتجنب الإسراف الطاغي.

وهذا يعني -بالضرورة- تمثّل قدر ما يعطى النص الإعلامي من "مِلح النحو" فيما دون "اللحن الإعرابي" الذي ينبغي أن يظل "خطًّا  أحمر"، لا يُقبل اجتيازه، ولا يُتجاوز عنه، على الأقل ما دام في محل التدارك.. وبالمناسبة؛ ليست اللغة كلُّها نحوًا، بل ليس "التحرير" كلُّه لغة!!

وفي مجال "التحرير الإعلامي" لا محيد -عمليًا- عن التبويب على محسّنات "الفنية الأسلوبية"، ويستحسن أن تكون مستخرجة من وعاء المحدَث اللفظي السليم؛ لا مستلّة من حقيبة الوضْع السقيم، ولا منتزعة من جِراب الترجمة الركيكة، وما زاد على ذلك -من دقائق المثالية- فإن ركوب الرأس في أمره قد يوقع صاحبه في التنطع والشطط!

ومما لا يسع المحرّر جهلُه الاحتكام إلى الفرق بين وعاءَي المادة الإعلامية والنص الأدبي، واستصحاب ذلك الفرق في عمليتي التحرير والأداء، وهو فرق يتّسع حتى في المجال اللغوي البحت؛ إذ لا يستوي المقال الأدبي ولا المقالة العلمية!

لكنّ التوفيق في مراعاة الفرق وانتقاء "القاموس المناسب" حسنة بين سيئتَي التخفّف المفرِّط والتوعُّر المفْرِط.. وقد كاد ينطبع في ذهن جمهور الشاشة أنّ كلّ ما في النشرات والبرامج إن هو إلا "أحداث ميدان" و"أخبار سياسة"، تسير كلّها على سَنن رتيب ليس لـ"الذوق" فيه محل من التبويب، ولا منفذ فيه لـ"العاطفة" إلا في ذروة احتدام "المشهد الإنساني"!

إذا لم يجئ المذيع بمنكر من اللحن، ولم يقترف ركيكًا من الأسلوب، فليس عليه جُناح فيما أخطأ به من لَمَم "لغة الصحافة"؛ فليتق الله المدققون اللغويون وليراعوا في المذيعين إلَّ "الزمالة

وكما أنصح نفسي والمدقّقين اللغويين بتمثّل قدر ما يعطَى النص الإعلامي من "ملح النحو" فإنني أنصح للمحرِّر أن يراعي قدر ما يعطى "الخبر الإنساني" من "سكَّر العاطفة"، وقد يتحمل ذلك الخبر قدرًا لا بأس به من تلك "المادّة البيضاء"!

إعلان

وحتى لا يحاكمني القارئ على ذمة العنوان، ويطالبني بتفسير "فوبيا النحو" و"تطبيع العلاقات مع اللحن"، أعود إلى قصة الشاب الأنيق معلّقِ القلب بوظيفة المذيع؛ لأذكر أن هاجس الخطأ النحوي الذي تجاوزَه صاحبُ الثقة الزائدة قد يمثّل كابوسًا مؤرّقًا لغيره من المقْدِمين على نفس الوظيفة، المسكونين بنفس الشغف وذات الحُلْم، وربما وضعتهم التجربة في موقف لا يحسدون عليه أمام المدقّق والمُشاهد أيضًا، وقد يقرؤون الامتعاض على وجه المدقّق اللغوي في حالة عدم عرض المادة عليه، أو ضرْب عُرض الحائط بـ"تعليماته".

وقد يكون مع المشاهد والمدقّق الحقّ في استيائهما؛ إذ النفس ميالة -بطبيعتها- إلى "الكمال"؛ فلا غرو إذا انقبضَت وضاقت لمستقبح اللحن، ولم تقبل "تطبيع العلاقات معه".

فإذا لم يجئ المذيع بمنكر من اللحن، ولم يقترف ركيكًا من الأسلوب، فليس عليه جُناح فيما أخطأ به من لَمَم "لغة الصحافة"؛ فليتق الله المدققون اللغويون وليراعوا في المذيعين إلَّ "الزمالة"، ولا يُكرِهوهم على نمطي الأسلوب، ولا يكرّهوهم في اللغة، ولا يلزِموهم ما لا يَلزم.. على الشرط الذي ذكرت سالفًا، وتحت الضابط الذي أوردت آنفًا!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان