منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض وهو يتبع سياسة غير تقليدية في التعامل مع مختلف الدول، من الحلفاء وغير الحلفاء، مستفيدًا من الهاجس الذي أصاب القادة الأجانب بأن دونالد ترامب رجل لا يمكن التنبؤ بأفعاله، وقد يذهب بعيدًا عن المنطق لتحقيق مراده.
ولقد وظّف ترامب هذا الهاجس لصالحه أملًا بأن تقدم الدول تنازلات اتقاءً له، معتمدًا على إستراتيجية قائمة على إظهار نفسه كشخص غير متوقع، قد يفعل أي شيء للحصول على ما يريد.
هذه الإستراتيجية، التي يمكن وصفها باللامنطقية سعت إلى زرع الخوف في نفوس القادة الأجانب، وإجبارهم على تقديم تنازلات، خشية أن يتخذ الرجل قرارات متشددة قد تؤثر على استقرار بلدانهم، أو حتى العالم بأسره.
تحدث ترامب عن "تهجير مؤقت" لسكان غزة إلى دول مجاورة مثل مصر والأردن، متذرعًا بالوضع الإنساني المتدهور نتيجة الحرب، لكنه في تصريحات أخرى ألمح إلى فكرة "شراء غزة"
تعود جذور هذه الإستراتيجية إلى الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون، الذي حاول إقناع خصومه، خاصة الاتحاد السوفياتي، بأنه قد يكون غير متوقع نهجه في مسألة الخيار النووي إذا لم يحقق أهدافه.
لكن ترامب أخذ هذا النهج إلى مستوى جديد، معتمدًا على الانطباع الذي ساد عن شخصيته غير المتوقعة وتصريحاته المثيرة للجدل، لتشكيل صورة رجل يصعب التنبؤ بأفعاله. وهذه السياسة طالت مجموعة من الدول منذ 20 يناير/ كانون الثاني الماضي.
أولى هذه الدول كندا، التي أعرب عن رغبته بضمها إلى الولايات المتحدة، ثم جاءت المطالبة بجزيرة "غرينلاند" من الدانمارك، ولقد تعمّد تسريب خبر إصابته بنوبة غضب عندما رفضت الدانمارك تسليمه الجزيرة.
فلكم أن تتخيلوا كيف سيحلل قادة المخابرات حول العالم هذه الشخصية، وما التقرير الذي سيرفع للقيادات، وكيف ستكون نفسية القائد الذي سيتعامل مع ترامب بعد أن يقرأ التقارير، ليشكل انطباعًا عن شخصية الرجل الذي يتعامل معه. ومن الدول التي طالتها هذه السياسة أيضا بنما التي طالب بقناتها، وإيران التي تواجه تهديدًا بضربة قويّة.
وكانت ذروة هذه السياسة في تصريحاته المتعلقة بقطاع غزّة، والتي ظهرت في تصريحاته المتناقضة والمبهمة؛ ففي بعض المواقف، تحدث ترامب عن "تهجير مؤقت" لسكان غزة إلى دول مجاورة مثل مصر والأردن، متذرعًا بالوضع الإنساني المتدهور نتيجة الحرب، لكنه في تصريحات أخرى ألمح إلى فكرة "شراء غزة"، دون توضيح ممن سيتم شراؤها، أو كيف يمكن تنفيذ ذلك على أرض الواقع.
كما طرح ترامب مقترحًا آخر يتمثل في "منح الفلسطينيين أراضي بديلة" خارج غزة، لمنعهم من التفكير في العودة إليها، وهو ما يعكس توجهًا نحو إعادة رسم الجغرافيا السكانية والسياسية للقطاع.
لتنجح سياسة الردع يجب أن يكون هناك تكاتف عربي وإسلامي، ووقوف إلى جانب مصر والأردن حتى النهاية، لإفشال هذا المخطط ووضع حد لطموح الرجل حول المكاسب التي ستكون التالية بعد غزّة
هذه التصريحات، التي بدت متغيرة وفق الظروف والضغوط، تعكس محاولة ترامب استغلال حالة الفوضى لتحقيق أهداف غير واضحة، سواء كانت تتعلق بتصفية القضية الفلسطينية أو إعادة تشكيل خريطة النفوذ في المنطقة.
وهذا التناقض في مواقفه أدى إلى غموض كبير في نوايا إدارته، وأثار استياءً فلسطينيًا ودوليًا واسعًا، حيث اعتُبرت هذه الأطروحات محاولات غير واقعية تهدف إلى إنهاء الوجود الفلسطيني في غزة بطريقة غير مباشرة، سواء عبر التهجير القسري أو الإغراءات الاقتصادية.
إن سياسة ضغط الرجل الذي لا يمكن التنبؤ بأفعاله قد تجعل بعض القادة يقدمون تنازلات، وهذه السياسة تحت الاختبار الآن، لأن دولًا ككندا والدانمارك وبنما وغيرها لم ترضخ لطلبات ترامب.
فإن نجح في فكرة تهجير سكان غزّة فستكون فترة رئاسته سهلة، وسيضاعف أساليب تطبيق هذه الإستراتيجية لتحقيق مكاسب أكبر، أما إذا فشل في تطبيقها فلن يكون قد اكتسب سوى السمعة التي حاول استثمارها وفشل.
وقد تكون سياسة التعامل معه بطريقته نفسها هي أفضل خيار الآن، على مبدأ "الدواء من الداء"، وأن من يريد اللعب بالنار عليه أن يستعد لحريق كبير. ولتنجح سياسة الردع يجب أن يكون هناك تكاتف عربي وإسلامي، ووقوف إلى جانب مصر والأردن حتى النهاية، لإفشال هذا المخطط ووضع حد لطموح الرجل حول المكاسب التي ستكون التالية بعد غزّة .
ولا أظن أن الرجل سيذهب بعيدًا إلى حد خسارة الشرق الأوسط الغني كحليف للولايات المتحدة، حتى وإن كانت مواقف الدول العربية تشبه مواقفها في حرب 73 مع مصر، حيث اتخذت الدول -ومنها المملكة العربية السعودية- قرارات حاسمة، أسهمت في نجاح مصر باسترجاع سيناء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.