شعار قسم مدونات

الثقافة الرقمية الذكية من منظور أخلاقي

Code Projected Over Woman
الكاتب: على المتلقي لنتاجات الثقافة الرقمية من كتب إلكترونية توخي الحيطة والحذر بمصداقية المعرفة المقدمة (بيكسلز)

من المعروف أن التكنولوجيا تتطور بتسارع كبير عابر للأجيال!

كان جهاز المذياع (الراديو) في بدايات القرن المنصرم آخر ما توصل إليه العلم الحديث (وقتئذ)، ليشكل نواة حاضنة شعبية في المقاهي، يتجمع حوله الزبائن لسماع آخر أخبار العالم، وآخر أغاني المشاهير وقصائد الأدباء وتصريحات الساسة، ولمشاهدة المسلسلات الدرامية السمعية القصيرة، التي تترك للمستمع تخيل الشخصيات في صراعها الدائر بين الخير والشر.

بعده ظهر جهاز التلفاز (الرائي) بضيائه البهي، كأداة لا غنى عنها تحتل أماكن عديدة في منازل المتلقين، معلنًا سيادته على ينابيع الثقافة الموجهة، ناقلًا للأخبار والأحداث العالمية والمباريات بالصوت والصورة، محدثًا نقلة نوعية في مصدر المعلومة والمعارف على تنوعها، ليأخذ من أوقات قراء الصحف والمجلات كمصدر لا يشق له غبار في تلقي الثقافة.

تعتبر الثقافة عابرة للحدود، قلما احتضنها صرح وقيدها بنطاق مغلق، حيث يستطيع كل طالب لها التزود منها بلا حدود في كل وقت وحين، ومن أي مكان

وطوّر الإنسان الحاسوب ليصبح شخصيًّا مكتبيًّا، ووسيلة في تيسير الأعمال، ومن بعده الجوال الذي تربّع على عرش التقانة الحديثة فاقترن دوره بثورة الاتصالات والإنترنت، ليصبح ذكيًا ونافذة على العالم، يطّلع من خلالها الناس على آخر الإصدارات والأفلام والأحداث، وآراء العلماء حول مسائل عدة تهمهم.

إعلان

يعرِّف العالم الإنجليزي تايلور الثقافة على أنها: "الكل المعقد الذي يشتمل على المعرفة والعقيدة والقانون والفن والعادات والأخلاق، وأي مقومات أخرى يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع"، والحقيقة أن ذلك التعريف ليس التعريف الوحيد للثقافة، فهناك اختلافات بين العلماء في تعريف الثقافة، وقد اخترت تعريف تايلور ذاك. وتُعرَّف الثقافة اصطلاحًا بكونها حذقًا يتصف به صاحبها المثقف ليميزه عن غير المثقف.

ويقودنا ذلك للتفريق بين المتعلم والمثقف؛ فالمتعلم الذي درس الطب – مثلًا- وأبدع فيه، لكنه لم يقرأ غير كتب الطب، لا يعد مثقفًا وإن كان متعلمًا. وقد نجد مثقفًا يقرأ من الكتب الكثير، ويتابع مقالات كتاب، ويستمع إلى المحاضرات، ويشاهد الأفلام الوثائقية، لكنه لا يحمل شهادة علمية ما تأهيلية.

إذن، تعتبر الثقافة عابرة للحدود، قلما احتضنها صرح وقيدها بنطاق مغلق، حيث يستطيع كل طالب لها التزود منها بلا حدود في كل وقت وحين، ومن أي مكان.

وأدوات الثقافة عديدة، مثل الصحف والمجلات والمذياع، والقنوات التلفزيونية ومواقع الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها.

وإذا ما قمنا بعمل اقتران بين الثقافة والإنترنت، وجدنا مصطلحًا مهمًا هو الثقافة الرقمية، يتم تداوله كثيرًا في وسائل الإعلام، بل وأكثر من ذلك خُصص له مساق منهجي ضمن كتب مدرسية في وزارات التعليم في بعض الدول، مثل ما هو حاصل في المملكة الأردنية الهاشمية.

في عالم الثقافة الرقمية المستندة للتقانة، أصبح الكتاب الإلكتروني في غالب الأحيان منتجًا ثقافيًا سريع التحضير بلا عين ناقدة تقبل أو ترفض

الثقافة الرقمية ليس مصطلحًا مبتدعًا، بل هو اقتران تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بالثقافة (كما قدمنا سلفا)، لتصبح الثقافة الرقمية في جدتها عنوانًا لفردية التلقي لها بخصوصية مشتركة أحيانًا.

لم يصبح المثقف فيها متلقيًا فقط، بل صانعًا أيضًا لها في زوايا متعددة واهتمامات مختلفة، وهنا تكمن الخطورة في مدى الثقة والمصداقية للثقافات المتنوعة ومقاصدها وتأثيرها وصداها، إذ يصبح الكل يدلو بدلوه في مواقع التواصل الاجتماعي بالصوت والصورة، بلا رقيب ولا حسيب في غالب الأمر.

إعلان

فتأليف كتاب ورقي في الثقافة التقليدية – مثلًا- يدخل في مراحل عديدة، تتعلق بالتدقيق اللغوي والعلمي والتقني، حتى يرى الكتاب النور في معارض الكتب.. لكن في عالم الثقافة الرقمية المستندة للتقانة، أصبح الكتاب الإلكتروني في غالب الأحيان منتجًا ثقافيًا سريع التحضير بلا عين ناقدة تقبل أو ترفض.

من هنا كان على المتلقي لنتاجات الثقافة الرقمية من كتب إلكترونية توخي الحيطة والحذر بمصداقية المعرفة المقدمة تلك، لا سيما ما يكتب في الإنترنت من منشورات، فهي ليست مصدرًا موثوقًا بالضرورة للحقائق العلمية.

فالمستخدم لمنصات التواصل الاجتماعي يُطلب منه تقصي الحقيقة قبل إعادة نشر المعلومات على اختلافها، وعليه -أي المتلقي- مراعاة نقدها قبل الاقتناع بها وإعادة استخدامها، أو حفظها وتداولها حقيقة أو افتراضًا.

شكلت منصات التواصل الاجتماعي مجالًا فريدًا للحوار، لكن السؤال المفتاح في إيجابية ذلك الحوار (لاعتباره بنّاء) هو مدى دعمه لجسر الهوة بين الشعوب، وإزالة الفجوات الثقافية المجتمعية، وتوطيد العلاقات العابرة للحدود، لكن إذا استُخدمت تلك المنصات في إثارة الفتن، والتعبير بعنصرية ضيقة، أو عدم احترام القيم الإنسانية في عرض وتسويق أي أمر يخدش الحياء العام، أو يضرب اللحمة الوطنية، أو لا يحترم القيم الدينية، فإن الثقافة الرقمية تتحول من نعمة إلى نقمة، وذلك يتطلب تصويبها وعقلنتها بمسؤولية منضبطة ضمن معايير أخلاقية متعارف عليها ومقبولة قبولًا عامًا.

في تداول المعلومات الثقافية عبر وسائل التواصل الاجتماعي يُطلب مراعاة إرجاع الأمر لمصدره بعد التحقق منه لضمان نقاء ومصداقية الينبوع الافتراضي للثقافة، بعيدًا عن الزيف في إنتاج المواد الثقافية مع استخدام الذكاء الاصطناعي

وللأسرة دور مهم في مراعاة المعايير الأخلاقية بالرقابة على تقنيات تلقي الثقافات المتنوعة للأطفال، بالتعامل مع أدوات الثقافة الرقمية تلك بذكاء، لتتشكل منظومة ثقافية خاصة تستند للقيم الأخلاقية التي تحافظ على الأبناء، بعيدًا عن مخاطر الانحراف الذي لا تحمد عقباه.

وعلى الحكومة الوطنية لأي بلد الدور الأبرز في الموازنة بين إطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان، وتقييد تلك الحريات بنظام أخلاقي رادع لأي تجاوز يتعدى حدود القيم المجتمعية، لتكون الثقافة الرقمية المفتوحة ضمن منظومة ذكية تصون ولا تخون.

إعلان

هناك أيضًا زاوية أخرى تتطلب قيمة أخلاقية، تتعلق بالأمانة العلمية ضمن التطور الحاصل في خوارزميات الذكاء الاصطناعي، التي باتت لطلاب العلم ملاذًا سريعًا لتجهيز متطلبات النجاح الأكاديمي بالبحث العلمي، حيث إن الأمانة العلمية كقيمة أخلاقية تتطلب الإشارة المرجعية للذكاء الاصطناعي كأي مصدر من مصادر العلوم، دون التماهي معه بلا إبداع بشري يذكر.

وفي تداول المعلومات الثقافية عبر وسائل التواصل الاجتماعي يُطلب مراعاة إرجاع الأمر لمصدره بعد التحقق منه لضمان نقاء ومصداقية الينبوع الافتراضي للثقافة، بعيدًا عن الزيف في إنتاج المواد الثقافية مع استخدام الذكاء الاصطناعي.

وفي الإبداع الفردي أو المؤسسي لصناعة الثقافة على الإنترنت، يتطلب الأمر الحفاظ على حقوق الابتكار في توليد المواد الثقافية كتابة أو برمجة أو مونتاجًا في قوالبها الرقمية المختلفة.

والتقاط صورة عابرة لشخص أو أملاك للغير، لنشرها ثقافيًا عبر الإنترنت، يتطلب احترام صاحبها أو مالكها بالإذن والموافقة، وهذا أمر أخلاقي معتبر قبل أن يكون خلافه جرمًا إلكترونيًا يعاقب عليه القانون.

أما صانعو المحتوى على اختلاف قنواتهم، فعليهم التزام أخلاقي -لا سيما المشاهير منهم- في تقديم النافع في مواضيعهم، ومراعاة المصداقية فيها، وانتهاج توثيق مصادرهم، والعمل على التأثير إيجابيًا على أفراد الجيل الصاعد، الذي قد يَعتبِر كثيرين منهم قدوة، ومراعاة القيم الدينية والأعراف والعادات والتقاليد، وعلى مشاهير التواصل الاجتماعي كذلك تحسين لغتهم، واحترام الذوق العام، واحترام عقلية المشاهد.

أضحت الثقافة إذن في ظل ثورة المعلومات والاتصالات والذكاء الاصطناعي تسير باتجاهين؛ الأول تلقٍّ والثاني صناعة، وفي كلتا الحالتين تتطلب الثقافة مراعاة القيم الأخلاقية الإنسانية في قوالبها متعددة المصادر، كالصدق والحياء، والتحقق والأمانة، وحفظ الحقوق، والبعد عن إثارة الفتن ونشر الرذيلة والعبارات المسيئة والتحريف والتزييف.

إعلان

ختامًا، تعد طبيعة المحتوى معيارًا للقبول والرفض في موازين القيم الإنسانية، لكن ذلك يتطلب بالتوازي رقابة مسؤولة، تنقي الشوائب بفلاتر تقنية واجتماعية ومهنية مهمة، حتى لا تذوب تلك القيم فيفقد الجيل بوصلته، وتتبدد طاقاته بلا جدوى ناظمة لحياته الوطنية والقومية والدينية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان