شعار قسم مدونات

أيامي وطموحاتي (3)

كليلة ودمنة في تاريخ الثقافة الإسلامية - محمد المختار
كتاب "كليلة ودمنة"، زاوج في المعنى بين عالم الحيوان وعالم الإنسان، الذي يميل إلى حب الهيمنة والاستحواذ إلى حدِّ الجشع (الجزيرة)

لم تكن قراءة الكتب بالشيء العسير بالنسبة لي؛ فقد نشأت – ومنذ سنوات دراستي الإعدادية- على حب المطالعة، وقراءة الأشعار التي كانت تجذبني إليها جمالية القافية وحضور المعنى، خاصة في أبيات المعلقات التي تعود للعصر الجاهلي، أعني بذلك عصر ما قبل بزوغ فجر الإسلام.

وكنت أحفظ عن ظهر قلب أبيات عمرو بن كلثوم وامرئ القيس، وكذلك أشعار حاتم الطائي، هذا الرجل الذي كتب له التاريخ أن يشتهر بالكرم. وأذكر هذه الأبيات المليئة بالحكمة وعمق المعنى:

فلا الجود يفني المال قبـل فنائـه    ولا البخل في مال الشحيح يزيد

فلا تلـتـمـس رزقًا بعـيـش مقـتـر    لكـل غــد رزق يـعـود جــديـــد

ألـم تـر أن الـرزق غاد ورائــح    وأن الــذي أعــطـاك سوف يعيد

ومن أشعاره أيضًًا:

أمــاوي ما يغــني الثــراء عن الفــتى    إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر

فن عالم الرواية العربية، ظهر متأخرًا عند العرب، على عكس الأوروبيين عمومًا، والفرنسيين على وجه الخصوص؛ فشتان بين أدب الرواية التي ذاع صيتها منذ العصور الوسطى في فرنسا وإنجلترا، وأدب لم يظهر إلا أوائل القرن العشرين في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا

كما كنت أحفظ أشعار المتيمين بالحب، كقيس وليلى، وأشعار عنترة بن شداد المتيم بحب عبلة، بل وكنت أقرأ أيضًا أشعار الرثاء، كرثاء الخنساء لأخيها صخر.

كانت سنوات الدراسة الإعدادية بمثابة فرصة للتعرف على فن الهجاء، خاصة بين جرير والفرزدق، وفتح الباب أمام فن المقامة، مقامات بديع الزمان الهمذاني الشهيرة، التي لعظمها تدرَّس في جامعة ميشيغان الأميركية، وفي العديد من الجامعات العربية.

إعلان

ومن جمالية الكلام والتلقي في فن المقامة، قرأت أيضًا كتاب "كليلة ودمنة"، الذي يزاوج في المعنى بين عالم الحيوان (هذا العالم المفترس، والذي تميل فيه الكفة للقوي والذكي) وعالم الإنسان، الذي يميل إلى حب الهيمنة والاستحواذ إلى حدِّ الجشع. هذا الكتاب الذي اقتبس منه الكاتب الفرنسي لافونتين (Lafontaine) أقصوصاته عن الحيوانات تحت عنوان: "Les Fables de Lafontaine".

جاء هذا الإنجاز الأدبي متأخرًا بقرون عن العرب والفرس والهند، الذين كانوا السباقين إليه. وتأتي حكايات "ألف ليلة وليلة" لتشهد على هذا النبوغ العربي، من خلال إظهار ذكاء المرأة وحنكتها في تجاوز التهديدات بالقتل.

قيل إنها ليست عربية الأصل، وإنما تعود لغربي وجنوبي آسيا، ثم تمت ترجمتها فيما بعد إلى العربية، وقيل إنها مزيج من الحكايات ذات الأصول الهندية، والفارسية، والعربية، ومن الحضارة المصرية القديمة.

وسبق لي أن قلت إنني خلال مرحلتي الجامعية درست رواية "شودرلو دو لاكلو" التي عنوانها "العلاقات الخطيرة"؛ وفكرة هذا الكتاب، الذي ظهر في فرنسا في القرن الثامن عشر، قد تعود إلى المفكر والفيلسوف العربي أبي العلاء المعري في كتابه "رسائل المعري"، حيث إن هذه الرواية الفرنسية هي عبارة عن رسائل متبادلة بين الفيكونت دو فالمون (De Valmont)، والمركيز دو ميرتوي (La Marquise de Merteuil).

ومن الدواوين الشعرية التي كانت بحوزة والدي أتذكر ديوان الشاعر الصوفي المغربي عبدالرحمن المجدوب. ولا أزال أتذكر بيتًا شعريًا له:

سوق النسا سوق مطيار… يا الداخل رد بالك

وهذا البيت الشعري يبين خطورة الوقوع في فتن النساء، ويذكّر الرجال بأهمية الحرص.

ومن أبياته أيضًا هذا البيت الذي ينصح فيه الناس، ذاكرًا عدم جدوى الحرص على الحياة، وأنه على الرغم من تكالب الأقدار على المرء، فإن الفرج قريب:

إعلان

لا تخمم، لا تدبر، لا تحمل الهم ديمة

الفلك ما هو مسمر، ولا الدنيا مقيمة

ومن أشعاره التي تنم عن عمق الحكمة هذا البيت الذي يبين عدم اكتراث الأغنياء بهموم الفقراء:

المكسي ما دري بالحافي والزاهي يضحك على الهموم

اللي نايم على الفرش دافئ والعريان كيف يجيـه الـنوم

ربما كانت هذه الأشعار بمثابة نقطة البداية بالنسبة لي، للتعرف على الأدب العربي، بجمالية لغته، ودقة تعابيره.

بعد الاستقلال عن الهيمنة الإمبريالية صار كل همنا الانضمام إلى المعسكر الشرقي أو الغربي، والوصول إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية، وتجويع الشعوب عبر اعتماد سياسات تقشفية، تستثنى منها الطبقة السياسية التي تسيِّر دواليب السلطة

في المرحلة الثانوية من مشواري الدراسي، بدأت أغوص في عالم الرواية العربية، هذا الفن الذي ظهر متأخرًا عند العرب، على عكس الأوروبيين عمومًا، والفرنسيين على وجه الخصوص؛ فشتان بين أدب الرواية التي ذاع صيتها منذ العصور الوسطى في فرنسا وإنجلترا، وأدب لم يظهر إلا أوائل القرن العشرين في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا.

وهذا يطرح تساؤلات كثيرة عن سبب تأخرنا، وغياب علو الهمة عندنا على خلاف الغرب، الذي خرج من تخلفه في العصور الوسطى (حيث الجهل واستفحال الأمراض وغياب الأمن وسيادة النظام الإقطاعي، وهيمنة الكنيسة، واندلاع الحروب كحرب المائة سنة بين فرنسا وإنجلترا، والحرب الدينية بين البروتستانت والكاثوليك أواخر القرن السادس عشر، والحروب الصليبية على الشرق، وحروب نابليون التي وصلت حتى روسيا) إلى أمة شبه موحدة، يجمعها حب المصلحة، والرغبة في التفوق.

وليس هذا استعظامًا للغرب على حساب الشرق؛ إذ كان العرب والفرس هم السباقين إلى علوم كثيرة، كالجبر والهندسة والأدب والبصريات والفلك والكيمياء، عبر أسماء نُقشت على الكتب، على شاكلة عباس بن فرناس، والخوارزمي، وابن سينا، والفارابي، وجابر بن حيان.

لكننا بعد الاستقلال عن الهيمنة الإمبريالية صار كل همنا الانضمام إلى المعسكر الشرقي أو الغربي، والوصول إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية، وتجويع الشعوب عبر اعتماد سياسات تقشفية، تستثنى منها الطبقة السياسية التي تسيِّر دواليب السلطة، ولم نتعلم من دروس الماضي وجراحه، بل بقينا كقطعان تسيِّرها حفنة من عديمي الشعور بالمسؤولية.

إعلان

والدليل على هذا التأخر هو أنه ظهرت في سنوات السبعينيات من القرن الماضي حركة ووك (Wook) أو (Wookisme) في الولايات المتحدة الأميركية لتستنهض الهمم لدى الطوائف المنبوذة في المجتمع الأميركي، خاصة الأقليات من السود الذين يتعرضون للعنصرية والإقصاء من جوانب مهمة في الدولة.

ظهر الووكيزم على يد صحفي أميركي ذي أصول أفريقية  (ويليام ميلفين كيلي) من خلال مقال له في جريدة نيويورك تايمز سنة 1962. وفي سنة 1971، تحولت هذه الفكرة إلى قطعة مسرحية (كارفي ليفز)  لباري بيكهام، ثم تطورت هذه الفكرة لتصبح شعارًا للنضال السياسي، خاصة بعد اغتيال مالكوم إكس ومارتن لوثر كينغ، وبلغت أوجها سنة 2016 بعد ظهور حركة "حياة السود مهمة" (Black lives matter).

وإذا قارنا فترة ظهور الووكيزم بالولايات المتحدة الأميركية (1962) بالفترة نفسها لدى العرب، فسنجد سباتًا طويلًا لدى المثقفين العرب. هذا السبات ترجمته هذه الأبيات الشعرية للشاعر العراقي معروف الرصافي، الذي وافته المنية قبل بروز هذا التيار سالف الذكر بثلاثة عقود:

يا قــوم لا تتكـلـمـوا   إن الـكـلام مـحـــرم

ناموا ولا تستيقـظوا   ما فــاز إلا الــنُّـــوَّم

وتأخروا عن كل ما   يقضي بأن تتـقـدموا

ودعوا التـفـهم جانبًا   فالخير أن لا تفهموا

وتثـبـتوا في جهـلكم   فالــشر أن تـتـعلموا

إن السـياسـة سـرها   لو تعـلمون مطلسم

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان