بادئ ذي بدء، نجيب عن العنوان بأن العلة من وراء ديمومة القوانين الحديثة هي خاصية ترد في وصفها، وبناء عليها تصاغ القوانين.. نعم، إنها صفة التجريد والعمومية.
يصعب وضع تعريف يبين مفهوم خاصية "التجريد والعمومية"، وما يزيد الأمر ضراوةً هو: أهاتان الصفتان لتلك الخاصية تعبران عن معنى واحد، بحيث لا يمكن الفصل بينهما، أم إن كل صفة لها معنى، وهكذا يجوز الفصل بين صفة التجريد وصفة العموم؟
تلافيًا للخلاف الفقهي، نذهب إلى أن التجريد – كصفة للقاعدة القانونية – يختلف عن العمومية، وكل منهما يتعلق بجزء من تركيب القاعدة القانونية من حيث صياغتها، فيقال: القانون عبارة عن مجموعة من القواعد المجردة في نشأتها، العامة في تطبيقها، وبعباره أخرى أكثر دقة: المجردة في فرضها، العامة في حكمها. وتأسيسًا لذلك، تظهر صفة التجريد بشكل جلي أثناء مرحلة الصياغة التشريعية؛ لأنها المرحلة المعنية بمعالجة الفروض والحالات، في حين تظهر صفة العمومية أثناء مرحلة التطبيق؛ لأنها المرحلة المعنية بتطبيق حكم القاعدة القانونية.
في هذا الصدد يقول الدكتور نادر محمد إبراهيم، حفظه الله: "يعبر كل من هذين الاصطلاحين عن مرحلة من مراحل حياة القانون؛ وهما مرحلة (وضع) القاعدة القانونية، ثم مرحلة (تطبيق) هذه القاعدة".
القرارات الإدارية أو الأحكام القضائية تستنفد أثرها بمجرد تطبيقها على حالة محددة، خلافًا للقاعدة القانونية التي لا تنتهي بمجرد تطبيقها على الفرض الذي خُصِّصَت من أجله؛ بل تكون قابلة للتطبيق بشكل مستمر ودائم على كل شخص أو واقعة توافرت فيه
القاعدة القانونية مجردة في فرضها
يقصد بالفرض الوضع أو المركز القانوني أو الحالة المخصصة لتطبيق الحكم، وهكذا يمثل الفرض نطاق أو مجال تطبيق القاعدة القانونية، ويجب على الفرض أن يحدد تحديدًا مجردًا يبتعد عن التخصيص.
ولذلك، عندما نضع قاعدة قانونية فإننا نضعها للأشخاص بصفاتهم المجردة، وللوقائع بشروطها المجردة، ومن ثم إذا واجهت القاعدة القانونية شخصًا يجب ألا تعينه بذاته بل بأوصافه، وإذا واجهت واقعة فينبغي ألا تعينها بذاتها بل بشروطها، فلا بد من أن يكون الفرض في القاعدة القانونية مجردًا خاليًا من التمييز، بمعنى أن تكون شروط انطباق القاعدة غير متعلقة بشخص معين بالذات أو بأحداث محددة بالذات؛ بل -على النقيض تمامًا- تتعلق بأشخاص أو بوقائع محددة بالصفات والشروط لا بالذوات.
ويحتم التجريد توجيه حكم القاعدة القانونية إلى فئات من الأفراد، وجماعات من البشر، ووقائع لا محدودة، لكن لا يترك الأمر هكذا دون قيد؛ بل يحدد هؤلاء الأشخاص، وهذه الوقائع من خلال الأوصاف والشروط. وهكذا تطبق القاعدة القانونية على كل شخص أو كل واقعة، يتحقق فيه أو فيها هذه الأوصاف والشروط.
وبمفهوم المخالفة، القاعدة التي يصاغ فرضها لتحكم شخصًا معينًا أو واقعة محددة لا تعد قاعدة قانونية؛ لانتفاء صفة التجريد منها. وتطبيقًا لذلك، لا يمكن وصف القرار الإداري أو الحكم القضائي بالقاعدة القانونية؛ لأن كلًا منهما يصدر في مواجهة شخص معين بذاته أو واقعة معينة بذاتها.
ومن أمثلة القرارات الإدارية، القرار الصادر بإنهاء خدمة شخص معين بالذات في إحدى الوزارات أو نقله أو انتدابه، والقرار المتعلق بمنح وسام أو نوط أو ميدالية عسكرية، والقرار الإداري الصادر بإغلاق محل تجاري.
أما الأحكام القضائية، فخذ منها -على سبيل المثال- الحكم الصادر بإشهار إفلاس تاجر معين، والحكم الصادر بعزل مدير الشركة الفلانية، والحكم الصادر بعقوبة جنائية على شخص معين؛ لإعطائه شيكًا بدون رصيد.. "وهكذا تنتفي صفة القاعدة القانونية كلما تعين الأشخاص أو تعينت الوقائع بالذات".
فهذه القرارات الإدارية أو الأحكام القضائية تستنفد أثرها بمجرد تطبيقها على حالة محددة، خلافًا للقاعدة القانونية التي لا تنتهي بمجرد تطبيقها على الفرض الذي خُصِّصَت من أجله؛ بل تكون قابلة للتطبيق بشكل مستمر ودائم على كل شخص أو واقعة توافرت فيه -أو فيها- أوصاف وشروط هذه القاعدة القانونية.
ولا يقدح في صفة التجريد، فينال من صفتها القانونية، قصر تطبيق القاعدة القانونية على طائفة معينة من أفراد المجتمع، أو مجموعة محددة من الشعب، كالتجار أو المحامين أو المحاسبين أو العساكر.
والأمر على حد سواء، فلا تفقد القاعدة القانونية تجريدها إذا توجهت بحكمها إلى فئة معينة من الوقائع أو حالة معينة، كالتصرفات أثناء مرض الموت، أو حوادث العمال، أو الأعمال التجارية؛ لأن تطبيق القاعدة القانونية يكون مرتبطًا بتوافر أوصاف الفرض أو شروطه التي تعالجه، وهذا الفرض قد لا يتحقق إلا بالنسبة إلى فئة قليلة في المجتمع، كالفئات والوقائع التي ذكرناها آنفًا، كالتجار أو العساكر أو حتى الأجانب -فتوجد قواعد تنظم علاقتهم مع الآخرين، كقواعد القانون الدولي الخاص- أو التصرفات التي تنشأ أثناء مرض الموت، أو الأفعال الجنائية التي تحدث وفق ظروف معينة، كالسرقة ليلًا مثلًا، أو قتل موظف عمومي.
وأبعد من ذلك، قد يصاغ الفرض لمواجهة شخص واحد، ومع ذلك تظل القاعدة القانونية محتفظةً بتجريدها، ما دام هذا الشخص لم يكن معينًا محددًا لذاته بل لصفته، كالقواعد القانونية التي تحدد صلاحيات الوزير، واختصاصات رئيس مجلس الشورى، فهذه القواعد القانونية تطبق على فرد واحد، لكنها وضعت لتواجه كل من صار وزيرًا أو رئيسًا لمجلس الشورى، بغض النظر عن شخصه وذاته.
عمومية القاعدة القانونية لا تعني أنها مطلقة الأثر من حيث المكان والزمان، فتطبق في كل إقليم الدولة، وتسري في كل الأوقات؛ إذ توجد بعض القواعد القانونية التي يقتصر نطاق تطبيقها على جزء من إقليم الدولة
القاعدة القانونية عامة في حكمها
سبق شرح معنى التجريد كصفة من صفات القاعدة القانونية، وهو يقودنا بذلك إلى الصفة اللصيقة بها، التي تمثل نتيجتها، وتظهر بشكل واضح عند تطبيقها. فتجريد الفرض يؤدي إلى عموم الحكم، والعمومية في هذا الصدد تعني وجوب سريان الحكم أو الحل الذي تقرره القاعدة القانونية، متى توافر فرضها -الأوصاف والشروط- على جميع الأفراد المخاطبين بحكمها، وعلى جميع الوقائع التي تدخل في نطاقها، "دون تمييز بسبب الجنس أو اللون أو المركز الاجتماعي".
ولكن عمومية القاعدة القانونية لا تعني أنها مطلقة الأثر من حيث المكان والزمان، فتطبق في كل إقليم الدولة، وتسري في كل الأوقات؛ إذ توجد بعض القواعد القانونية التي يقتصر نطاق تطبيقها على جزء من إقليم الدولة، مثل القواعد القانونية المتعلقة بقانون الاستثمار، التي بدورها تقصر نطاق تطبيقها على المناطق الحرة، ولا ينافي ذلك من عمومها.
علاوة على ما سبق، لا يؤثر في صفة العمومية تأقيت تطبيق القاعدة القانونية؛ حيث توجد بعض القواعد القانونية التي يصدرها المشرع لفترة معينة أو لغرض محدد، مثل القواعد القانونية المتعلقة بقانون الأحكام العرفية، التي بدورها تقصر سريانها لفترة مؤقتة، "فعمومية القاعدة إذًا لا تعني شمولها".
التجريد والعمومية يكسبان القاعدة القانونية صفة الدوام والاستمرارية، فهي لا تقتصر على الحال؛ بل تمتد كذلك إلى المستقبل
الغاية من التجريد والعمومية في القاعدة القانونية
تؤدي صياغة القاعدة القانونية بصورة مجردة وعامة إلى عدة أمور هامة:
- أولها: أنها تجعل القاعدة القانونية موقف الوسط والحياد، فتبتعد عن الميل والهوى، وتدحض التحيز والمحاباة؛ وهي بذلك تحقق مبدأ المساواة بين الأفراد أمام القانون، ومبدأ سيادة القانون، ومن ثم يعم الأمن والاستقرار في المجتمع، وتتحقق المصلحة العامة.
- ثانيها: التجريد والعمومية يكسبان القاعدة القانونية صفة الدوام والاستمرارية، فهي لا تقتصر على الحال؛ بل تمتد كذلك إلى المستقبل، "فيتكرر تطبيقها كلما توافرت في الشخص أو في الواقعة شروط تطبيقها"، خلافًا للتطبيقات الخاصة سالفة الذكر -القرارات الإدارية والأحكام القضائية- التي تستنفد غرضها بمجرد تطبيقها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.