من مجالس الألفة إلى مجالس الضرار: الانقسام العائلي في المجتمع

Arabic business team showing unity with Cooperation Council; Shutterstock ID 106951886; purchase_order: س; job: ; client: ; other:
الكاتب: جعلت الشريعة من المجالس مواطن تواصل وتعاون تحيا فيها الأرواح بقيم الإصلاح والإنصاف (شترستوك)
  • حين تنقلب المجالس إلى مساجد ضرار

تعد المجالس في مجتمعاتنا مراكز حيوية للتواصل الاجتماعي، وهي تمثل في أصلها مقاصد جمع الكلمة وتأصيل المودة، إذ تؤدي دورا فاعلا في لمّ الشمل وتقوية روابط الرحم، وتعزيز مكانة الكبير الذي يجمع الناس على الحق والمحبة.

ولهذا، فالمجلس الأصيل الذي يقام للتآلف والإصلاح يشبه في معناه مسجد التقوى الذي أثنى الله على أهله؛ لأنه يؤسس بنية مخلصة وتسوده روح الجمع والوفاق.

لكن الملاحظ أن هذه المجالس أصبحت في أحيان كثيرة تتزايد بشكل يورث الفرقة، حتى يقام في الحي الواحد أو داخل العائلة مجالس متقابلة لا يفصل بينها سوى أمتار، وكل منها يدعي القرب والحق، حتى تحول بعضها من مواطن محبة واجتماع إلى أدوات تنافس خفي، وتحزب أسري أو قبلي يضعف الألفة ويزيل المودة.

وتتجلى مظاهر هذا «الضرار» في واقعنا المعاصر بصور مؤلمة، كأن يقام مجلس في مناسبة اجتماعية -كعرس أو عزاء- لا بقصد المشاركة، بل لإضعاف مجلس العائلة الكبرى أو صرف الأنظار عنه، أو أن يستعمل المجلس منبرا لنشر الإشاعات والنميمة والتقليل من شأن الآخرين، أو أن يتحول إلى منصة للتفاخر بالماديات والمكانة الاجتماعية، فينشأ عن ذلك تنافس نفسي يذكي الأحقاد ويضعف روح الأخوة.

إن تعدد المجالس دون حاجة محققة يورث الشقاق، ويهدم روح الألفة التي أرادها الشرع؛ فكما لا يقبل من المسلم أن يبني مسجدا ليضار به غيره، كذلك لا يليق به أن يقيم مجلسا يفرق به القلوب بعد أن جمعها الله

وليس الخلل في بناء المجلس ذاته، بل في النية التي يبنى عليها؛ فمجلس يقام للم الشمل وتواصل الأرحام وإصلاح ذات البين هو مجلس أسس على التقوى بمعناها الاجتماعي.

أما المجلس الذي يقام لمجاراة أو مفاخرة، أو لإبعاد الناس عن مجلس العائلة الأصلي، فهو أشبه بما وصفه الله تعالى في قوله: ﴿لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه﴾ [التوبة: 108].

إعلان

فالمسألة -كما بين المفسرون- ليست في بناء المكان، بل في نية الباني وقصده؛ فمن بنى مسجدا ليفرق بين المؤمنين فقد أتى عملا محظورا، ومن بنى مجلسا ليفرق بين أقاربه فقد أحدث في الأرض مثل ذلك الإفساد، وإن اختلف الموضع والمبنى.

إن آثار هذه الظاهرة تتجاوز مجرد الفرقة إلى أبعاد نفسية واجتماعية عميقة؛ فمن حيث الآثار النفسية، تولد مجالس الضرار مشاعر الأحقاد والغيرة والشعور بالإقصاء، وتحدث توترا مكتوما داخل الأسرة الواحدة.

ومن حيث الآثار الاجتماعية، تضعف هذه المجالس النسيج الاجتماعي، وتشتت وحدة الحي أو العائلة، وتسقط هيبة الكبار الذين كانوا موضع الإجماع والاحترام.

إن تعدد المجالس دون حاجة محققة يورث الشقاق، ويهدم روح الألفة التي أرادها الشرع؛ فكما لا يقبل من المسلم أن يبني مسجدا ليضار به غيره، كذلك لا يليق به أن يقيم مجلسا يفرق به القلوب بعد أن جمعها الله على المحبة. فالعبرة ليست بجمال المكان، بل بصفاء المقصد ونقاء النية، وهو المقصد الأعلى لاجتماع الناس على البر والتقوى.

الغرض -كما قال سيد قطب- هو إيجاد الفسحة في النفس قبل إيجادها في المكان، فمتى رحب القلب اتسع المكان وتسامح الجالسون

لقد جعلت الشريعة من المجالس مواطن تواصل وتعاون، تحيا فيها الأرواح بقيم الإصلاح والإنصاف وصلة القرابة، لا ساحات للتنازع والتفاخر.

فالمجلس الذي يقام على نية البر هو موضع ألفة وصفاء، يجتمع فيه من «يحبون أن يتطهروا» من أدران الأخلاق السيئة وأوحال الفرقة، أما المجلس الذي يقام على الإفساد والعجب والمنافسة المذمومة فيصبح جسدا بلا روح، وهيئة بلا معنى، فيبطله الشرع؛ لأن ضرره أعظم من نفعه.

ولكي تستعيد المجالس مكانتها الأصيلة، لا بد من تعزيز ثقافة المجلس الواحد الجامع في الأحياء والعائلات، ليكون منبرا للوحدة والتكافل بدل أن يغدو ميدانا للانقسام والمباهاة.

كما ينبغي إحياء آداب المجالس الإسلامية؛ من إفشاء السلام، وتجنب الغيبة، وإكرام الضيف، وتوقير الكبير، فبها يتحول المجلس إلى مسجد تقوى تعمره القلوب قبل الجدران.

وقد أشار الله تعالى إلى أدب جليل من آداب المجالس في قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم﴾، وهو توجيه رفيع إلى التوسعة والتودد وترك الأنانية في المجالس؛ لأن التفسح من مكارم الأخلاق.

فالآية في ظاهرها تنظيم للمجلس، وفي باطنها تربية على التواضع والإيثار؛ إذ الغرض -كما قال سيد قطب- هو إيجاد الفسحة في النفس قبل إيجادها في المكان، فمتى رحب القلب اتسع المكان وتسامح الجالسون.

ولهذا كانت الآية تربية على أن الإيمان الذي يبعث على فسحة الصدر، والعلم الذي يهذب القلب، كلاهما يرفع الإنسان عند الله درجات؛ فهي فسحة في الدنيا تثمر رفعة في الآخرة. وقد أشار القرطبي إلى هذا المعنى بقوله: «وقيل: يوسع الله عليكم في الدنيا والآخرة، وقيل: في قلوبكم».

إن الواجب الاجتماعي والديني هو أن تقام المجالس على نية الإصلاح والوفاق، لا على التنافس والتفرق؛ فمجلس واحد يضم القلوب خير من مجالس كثيرة تزرع المسافات بينها

ولعل الدواء يبدأ بمحاسبة النفس قبل إقامة أي مجلس، من خلال طرح أسئلة صادقة: لماذا أقيم هذا المجلس؟ أللصلة والإصلاح أم للتفاخر والمنافسة؟ هل يسوؤُني أن يجتمع الناس في مجلس غيري؟

إعلان

فهذه الأسئلة توقظ الضمير وتوجه النية إلى الصواب، وتقي المجتمع من نشوء مجالس الضرار.

إن الأعمال تبقى بنياتها، وما أسس على الإخلاص دام أثره، وما أسس على الباطل زال وإن طال زمنه؛ فالمجالس التي تبنى على الود والتقوى تبقى، لأنها بها تعمر النفوس قبل الأماكن، أما تلك التي تبنى على الرياء والمنافسة فمصيرها الزوال مهما تجملت.

قال الشعراوي رحمه الله: «المسألة ليست في بناء المسجد، ولكن في من يدخله ويعمره»، وكذلك المجالس: ليست العبرة بمظهرها أو فخامتها، بل بمن يحضرها وبالنية التي تدار بها.

لهذا، فإن الواجب الاجتماعي والديني هو أن تقام المجالس على نية الإصلاح والوفاق، لا على التنافس والتفرق؛ فمجلس واحد يضم القلوب خير من مجالس كثيرة تزرع المسافات بينها.. وما أسس على التقوى عمر القلوب، وما أسس على الضرار خربها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان