زهران ممداني.. المرشح الذي أشعل انتخابات نيويورك!

Zohran Mamdani gestures as he speaks during a watch party for his primary election, which includes his bid to become the Democratic candidate for New York City mayor in the upcoming November 2025 election, in New York City, U.S., June 25, 2025. REUTERS/David 'Dee' Delgado
المرشح الشاب لمنصب رئيس بلدية نيويورك زهران ممداني (رويترز)
  • ممداني يصوِب بوصلة العدالة الاجتماعية

في 24 يونيو/حزيران 2025، فاجأ زهران ممداني المشهد السياسي الأميركي بفوزه في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لبلدية نيويورك، متفوِقا على الحاكم السابق أندرو كومو، بعد حصوله على نسبة قاربت 56% من الأصوات.

لم يكن هذا الفوز مجرد انتصار انتخابي عابر، بل تحول إلى لحظة رمزية تعبر عن توق سكان المدينة إلى تغيير ملموس في حياتهم اليومية، بعد سنوات من التفاوت الاقتصادي وضغط المعيشة وغلاء السكن.

ومع حلول الانتخابات العامة المقررة في 4 نوفمبر/تشرين الثاني، يتحول ممداني إلى اختبار حقيقي: هل يستطيع مرشح من أصول مهاجرة أن يعيد صياغة العلاقة بين السلطة المحلية والمجتمع في أكبر مدن أميركا؟

تقدَم ممداني بخطة إنقاذ اجتماعي شاملة، تشمل تجميد الإيجارات في المساكن المستقرة، وتوسيع النقل العام المجاني عبر الحافلات، وإنشاء متاجر بلدية تبيع بأسعار الجملة للحد من الغلاء، إضافة إلى رعاية مجانية للأطفال حتى سن الخامسة

يحمل ممداني دلالات إنسانية وثقافية متعددة؛ فهو مسلم من أصول أوغندية-هندية مهاجرة، يمثل صورة المدينة متعددة الأعراق والهويات. لكنه في الوقت ذاته أصبح هدفا لهجمات إعلامية من خصومه المحافظين، الذين يرونه تهديدا للمنظومة التقليدية التي حكمت نيويورك لعقود. غير أن التحدي الأكبر أمامه لا يأتي من الخارج فقط، بل من الواقع الاجتماعي الداخلي للمدينة ذاتها.

فنيويورك، التي توصف بأنها «عاصمة العالم»، تخفي وراء أبراجها الزجاجية أحياء فقيرة تمتد في برونكس وبروكلين وكوينز، حيث تعيش مئات الآلاف من العائلات في مساكن ضيقة، وتكافح لتأمين الحد الأدنى من المعيشة.

وفي الوقت الذي تزدحم فيه مانهاتن بالثروات الفلكية والمكاتب الفارهة، تتكدس في أطراف المدينة فئات أنهكها الإيجار والضرائب وغلاء الخدمات.

هذا التفاوت الصارخ بين القلة الثرية والأغلبية المثقلة بأعباء الحياة هو ما يفسر تحول النقاش العام في نيويورك من السياسة إلى المعيشة، ومن الأيديولوجيا إلى الكرامة اليومية؛ فعدد الأثرياء تضاعف خلال العقد الأخير، بينما تقلصت الطبقة المتوسطة، وتراجع الأمن السكني لمئات الآلاف.. وباتت العدالة الاجتماعية مطلبا واقعيا لا شعارا سياسيا.

إعلان

في هذا السياق، تقدَم ممداني بخطة إنقاذ اجتماعي شاملة، تشمل تجميد الإيجارات في المساكن المستقرة، وتوسيع النقل العام المجاني عبر الحافلات، وإنشاء متاجر بلدية تبيع بأسعار الجملة للحد من الغلاء، إضافة إلى رعاية مجانية للأطفال حتى سن الخامسة.

هذه المقترحات ليست صدى لأيديولوجيا اشتراكية، بل هي رد طبيعي على أزمة معيشية مزمنة؛ فهي تعبر عن حاجة سكان المدينة إلى حلول عاجلة تحفظ كرامتهم في مواجهة اقتصاد لا يرحم، ومدينة تتسع للفنادق الفخمة أكثر مما تتسع للأسر محدودة الدخل.

في حال إقدام الرئيس ترامب فعلا على استخدام الجيش للتدخل في العملية الانتخابية أو لإلغاء نتائجها، فسيكون ذلك إعلانا فعليا لانتهاء العصر الديمقراطي الأميركي الذي امتد قرنين من الزمن

لكن هذا الخطاب المعيشي الواقعي اصطدم بجبهات أخرى؛ فداخل الجالية اليهودية- وهي الكبرى في العالم خارج إسرائيل- تفجَر انقسام حاد حول مواقفه من الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي؛ إذ يتهمه التيار المحافظ بعداء إسرائيل؛ بسبب دعمه لحركة المقاطعة (BDS)، بينما يرى فيه الجيل اليهودي الشاب نموذجا أخلاقيا لسياسي يدعو إلى العدالة في الداخل والخارج على حد سواء.

هذا الانقسام جعل حملته محك اختبار نادر بين القيم المدنية والمواقف الدولية في مدينة ذات حساسية دينية وثقافية عالية.

وفي الوقت نفسه، دخل البيت الأبيض على الخط؛ فقد صعَد الرئيس دونالد ترامب هجومه عليه منذ يوليو/تموز الماضي، وهدد علنا بقطع التمويل الفدرالي عن نيويورك إن فاز ممداني، ثم تطور التوتر في أواخر أكتوبر/تشرين الأول عندما لوحت الإدارة الفدرالية بإمكانية نشر الحرس الوطني في المدينة بذريعة «الحفاظ على الأمن الانتخابي».

ورد مجلس مدينة نيويورك على ذلك ببيان اعتبر الخطوة تهديدا للسيادة المحلية، مؤكدا أن وجود القوات الاتحادية غير مقبول داخل المدينة.

وهكذا تحول السباق البلدي إلى مواجهة سياسية غير مسبوقة بين سلطة المدينة والسلطة الفدرالية، ما قد يخلق أزمة دستورية مصغرة إذا مضت واشنطن في هذا الاتجاه.

وفي حال إقدام الرئيس ترامب فعلا على استخدام الجيش للتدخل في العملية الانتخابية أو لإلغاء نتائجها، فسيكون ذلك إعلانا فعليا لانتهاء العصر الديمقراطي الأميركي الذي امتد قرنين من الزمن.

مثل هذا السيناريو لن يقرأ كحادث محلي، بل كتحول بنيوي ينذر بانفراط عقد النظام الفدرالي، إذ لن تقبل الولايات الكبرى ككاليفورنيا ونيويورك بتسلط عسكري مركزي. والأقرب- إن حدث ذلك- أن تدخل البلاد مرحلة فوضى سياسية واجتماعية تهدد بتفكك الاتحاد نفسه، لتطوي الإمبراطورية الأميركية بذلك آخر فصولها التاريخية.

انتشرت في الجامعات الأميركية موجة احتجاجات واعتصامات تطالب بوقف الحرب وقطع الإمدادات العسكرية، وقد تبنى ممداني هذا الموقف الأخلاقي في حملته، مؤكدا أن «العدالة لا تتجزأ، ومن يطالب بها في نيويورك لا يمكن أن يتجاهلها في غزة»

المستجدات الأخيرة تظهر أن السباق يزداد اشتعالا؛ فقد أعلنت جمعية United Bodegas of America، التي تمثل آلاف المحلات الصغيرة في المدينة، دعمها المفاجئ لزهران ممداني بعد سنوات من معارضته، في خطوة وصفت بأنها «تحول في المزاج التجاري للطبقة العاملة».

وفي المقابل، نشر موقعا Fox 5 NY وBloomberg استطلاعات رأي جديدة تظهر تراجع تقدم ممداني قليلا أمام أندرو كومو، مع احتفاظه بالمركز الأول بفارق محدود.

كما كشفت صحيفة New York Post عن إحالة رسمية إلى وزارة العدل الأميركية تتعلق باتهامات بتلقي حملته تبرعات أجنبية غير قانونية، وهو تطور قد يستغل سياسيا في اللحظات الأخيرة من السباق، حتى لو لم تثبت التهمة.. هذه العناصر الجديدة تعيد رسم المشهد الانتخابي وتزيد من ضبابية الأيام الأخيرة قبل الاقتراع.

إعلان

وفي خلفية هذا المشهد المحلي المضطرب، تتفاعل الحرب على غزة بوصفها قضية أخلاقية تهز الوعي الأميركي، خصوصا لدى الجيل الشاب.

فمنذ اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، انقسم الرأي العام الأميركي بحدة، لكن استطلاعات الرأي أظهرت أن أكثر من نصف الشباب دون الثلاثين يعتبرون أن إسرائيل تستخدم قوة مفرطة في غزة، وأن دعم واشنطن غير المشروط لها لم يعد مبرَرا.

انتشرت في الجامعات الأميركية موجة احتجاجات واعتصامات تطالب بوقف الحرب وقطع الإمدادات العسكرية، وقد تبنى ممداني هذا الموقف الأخلاقي في حملته، مؤكدا أن «العدالة لا تتجزأ، ومن يطالب بها في نيويورك لا يمكن أن يتجاهلها في غزة». هذا التصريح لاقى صدى واسعا بين الشباب، لكنه أثار في المقابل غضب التيارات الموالية لإسرائيل، ما أضفى بعدا دوليا على حملته المحلية.

وفي حال دخلت الولايات المتحدة في دوامة كهذه، فلن يقتصر أثرها على الداخل الأميركي وحده، بل سيهز بنية النظام الدولي بأكمله. فواشنطن هي العمود الفقري المالي والعسكري للعالم الغربي، وأي انهيار في تماسكها الداخلي سيؤدي إلى تراجع الثقة بالدولار، وإلى فراغ في مراكز القرار العالمية، وسيفتح الباب أمام قوى صاعدة مثل الصين، وروسيا، والهند لإعادة تشكيل موازين القوة الاقتصادية والسياسية على مستوى الكوكب، إيذانا بنهاية مرحلة الهيمنة الأميركية التي بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

مهما تكن النتيجة، فستبقى نيويورك اليوم مرآة صافية لما تعيشه الولايات المتحدة: انقسام اجتماعي متفاقم، وضغط معيشي خانق، وحنين عميق إلى العدالة والإنصاف في زمن يشهد تنازع القيم والمال

إذا كان فوز زهران ممداني في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني سيجسد انتصار مسارٍ شاق وجديد نحو العدالة الاجتماعية، والتعايش الإنساني ونبذ العنصرية، وانكسار سطوة المال، فإن إخفاقه لن يكون سوى استراحة مؤقتة تكرس هيمنة القوى المالية والمؤسسات التقليدية لبرهة أخرى من الزمن.

فحتى في الهزيمة، سيبقى ممداني عنوانا لانتصار رمزي هائل، مع تحدٍ ممتدٍ للسنوات القادمة أمام من يمسكون بخيوط السياسة في المدينة والمقاطعة والدولة على السواء؛ إذ باتت حملته في جوهرها الشرارة التي لن تنطفئ -كشرارة الأولمبياد- بعدما نجح في كسر نمط العمل السياسي السائد القائم على اللوبيات.

ومهما تكن النتيجة، فستبقى نيويورك اليوم مرآة صافية لما تعيشه الولايات المتحدة: انقسام اجتماعي متفاقم، وضغط معيشي خانق، وحنين عميق إلى العدالة والإنصاف في زمن يشهد تنازع القيم والمال.

إن زهران ممداني طوفان سياسي أعاد تشكيل النمط الأميركي المغلق، وجعل الانتخابات الأميركية للمرة الأولى تخرج عن كونها حكرا على البيض.

ومن ناحية أخرى، غير طوفان الأقصى بعمق وجهة الوعي العالمي تجاه القضية الفلسطينية. ومع هذين الطوفانين اهتزت أسس النظام القديم من الداخل والخارج معا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان