الصمود النووي: هل تختار إيران طريق كوريا الشمالية؟

البرنامج النووي الإيراني
الكاتب: إيران تدرك أن الغرب يعرض عليها القبول الكامل بشروطه، أو مواجهة عقوبات قد تفضي إلى محاولة إسقاط النظام (الصحافة الإيرانية)

منذ نهاية الحرب الباردة، صار مصير الدول التي تدخل في مواجهة مع الغرب محكوما بمسارين رئيسيين: إما الاستسلام والانخراط في النظام الدولي بشروطه القاسية، كما حدث في ليبيا، والعراق، أو اتباع نهج الردع القائم على القوة العسكرية والنووية، كما في حالة كوريا الشمالية.

اليوم، تقف إيران عند منعطف خطير يشبه ما عرفته تلك الدول، لكنها تحمل في جعبتها خبرات تاريخية، وحزمة من الخيارات المحدودة، التي قد تحدد مستقبلها السياسي ومصير شعبها لعقود قادمة.

استطاعت كوريا الشمالية أن تفرض معادلة مختلفة؛ فبرغم العقوبات الخانقة والعزلة الدولية، تمكنت من تطوير برنامجها النووي حتى صار حقيقة لا جدال فيها

من بغداد إلى طرابلس: دروس الدم والنار

يذكرنا الغرب، في كل مرة يتحدث فيها عن "قبول إيران بالشروط"، بما جرى للعراق، وليبيا. فالعراق، الذي أنهكته حرب الخليج ثم الحصار الطويل، انتهى به المطاف إلى الغزو المباشر عام 2003، وإسقاط نظامه بالكامل، بحجة امتلاكه أسلحة لم يعثر عليها!

لم يكن العراق يمتلك ردعا نوويا، ولا شبكة تحالفات قوية تحميه، فصار مثالا على الدولة التي استسلمت تدريجيا حتى استنزفت ثم سقطت.

أما ليبيا، فقد قررت طوعا التخلي عن برنامجها النووي عام 2003، ظنا أن ذلك سيؤدي إلى اندماجها في المجتمع الدولي وتجنب مصير العراق، لكن النهاية كانت مأساوية: تدخلا عسكريا غربيا أطاح بالنظام، وغرق البلد في فوضى مستمرة.
بالنسبة لطهران، تبدو ليبيا المثال الأكثر إيلاما، لأنها تظهر بوضوح أن التخلي عن ورقة الردع لم يضمن الأمن ولا الاستقرار.

كوريا الشمالية: نموذج الصمود عبر الردع

على النقيض، استطاعت كوريا الشمالية أن تفرض معادلة مختلفة؛ فبرغم العقوبات الخانقة والعزلة الدولية، تمكنت من تطوير برنامجها النووي حتى صار حقيقة لا جدال فيها. واليوم، لا يجرؤ الغرب على التفكير في غزو بيونغ يانغ، ليس حبا بالنظام ولا احتراما لسيادته، بل خوفا من قدرة الردع النووي والصاروخي التي راكمتها.

إعلان

كوريا الشمالية دفعت ثمنا اقتصاديا واجتماعيا باهظا، لكنها ضمنت بقاء النظام وعدم تكرار سيناريو بغداد أو طرابلس.

يعرف الغرب جيدا نقاط ضعف إيران، لذلك يركز على سلاح الاقتصاد: العقوبات على النفط، وتقييد النظام البنكي، وتجفيف مصادر العملة الصعبة

إيران أمام المرايا الثلاث

تتابع إيران هذه التجارب بعناية، وهي تدرك أن الغرب يعرض عليها خيارين لا ثالث لهما: إما القبول الكامل بالشروط، ما يعني التراجع عن مشروعها النووي وتقليص نفوذها الإقليمي، أو مواجهة عقوبات خانقة قد تفضي في النهاية إلى محاولة إسقاط النظام. وفي كلتا الحالتين، تبقى مساحة المناورة محدودة.

لكن الدرس المستخلص من التجارب الثلاث يكاد يكون واضحا: من يتخلى عن أوراق القوة الإستراتيجية يسقط، ومن يحتفظ بها – مهما كان الثمن- فسيبقى.

ولذلك، يبدو أن طهران تميل أكثر فأكثر إلى الخيار الكوري الشمالي: التمسك بمشروعها النووي كضمانة وجودية، حتى لو أدى ذلك إلى عزلة طويلة.

الحصار الاقتصادي كسلاح غربي

يعرف الغرب جيدا نقاط ضعف إيران، لذلك يركز على سلاح الاقتصاد: العقوبات على النفط، وتقييد النظام البنكي، وتجفيف مصادر العملة الصعبة. الهدف هو إنهاك الداخل الإيراني ودفع الشعب نحو الضغط على النظام.

لكن التجارب أثبتت أن الحصار الاقتصادي، رغم قسوته، لا يؤدي بالضرورة إلى انهيار الأنظمة، بل قد يزيدها تشددا.
فالعراق صمد أكثر من عقد تحت الحصار، وكوريا الشمالية تحولت إلى اقتصاد حرب مكتفٍ ذاتيا نسبيا، وإيران نفسها خبرت العقوبات منذ عقود، وطورت بدائل محلية وتحالفات مع روسيا والصين.

لو كان للعرب مشروع حقيقي للتكامل الاقتصادي والسياسي، لكانوا قادرين على تقديم بدائل جاذبة لإيران، تحفزها على الاندماج في محيطها بدل الارتماء في أحضان نموذج كوريا الشمالية

هل تملك إيران طريقا ثالثا؟

الإشكال أن إيران ليست كوريا الشمالية من حيث التركيبة المجتمعية أو الموقع الجغرافي؛ فهي دولة كبيرة، متعددة الإثنيات، مرتبطة بسوق النفط العالمي، ومتصلة بجوار ملتهب من أفغانستان إلى العراق وسوريا والخليج. وأي انزلاق اقتصادي كبير قد يؤدي إلى اهتزاز داخلي يهدد تماسكها.

ومن هنا يتساءل البعض: هل تستطيع إيران صياغة طريق ثالث يجنبها مصير العراق، وليبيا، دون أن تعيش عزلة خانقة مثل كوريا الشمالية؟

قد يكون ذلك الطريق الثالث في بناء معادلة تفاوضية جديدة، تقوم على الحفاظ على حد أدنى من القدرات النووية والصاروخية، مقابل تسويات تدريجية مع الغرب. غير أن نجاح هذا السيناريو مرتبط أيضا بمدى قدرة العرب على لعب دور فاعل.

وهنا أعود إلى ما طرحته في تدوينتي السابقة: "ماذا لو تبنى العرب خطة مارشال لنهضة سوريا؟"، إذ إن غياب مشروع عربي متماسك يجعل إيران، وتركيا، وإسرائيل القوى الإقليمية الوحيدة القادرة على المناورة.

العرب بين الغياب والحضور

لو كان للعرب مشروع حقيقي للتكامل الاقتصادي والسياسي، لكانوا قادرين على تقديم بدائل جاذبة لإيران، تحفزها على الاندماج في محيطها بدل الارتماء في أحضان نموذج كوريا الشمالية.

لكن الواقع يكشف عجزا عربيا ممتدا، وهو ما يترك الساحة للغرب ليحدد الخيارات، ولإيران لتدافع عن نفسها بمفردها.

النتائج قد تكون معروفة، لكن التاريخ لا يعيد نفسه بكليته؛ فإيران ليست ليبيا، ولا العراق، ولا حتى كوريا الشمالية، لكنها تواجه الغرب بالأدوات ذاتها: القوة، والحصار، والصبر الطويل

طريق محفوف بالمخاطر

إيران اليوم على مفترق طرق؛ خيارها الأول أن تنساق وراء مطالب الغرب، فتتخلى عن مشروعها النووي، وتضع نفسها في موقع هش شبيه بما حدث لليبيا، والعراق، وخيارها الثاني أن تسلك نهج كوريا الشمالية، فتحافظ على أوراق الردع النووي مهما كانت تكلفة العزلة.

إعلان

وبين الخيارين، يظل الطريق الثالث – التفاوض بشروط متوازنة وفتح الباب لتسويات إقليمية – هو الأكثر عقلانية، لكنه الأصعب تحقيقا.

النتائج قد تكون معروفة، لكن التاريخ لا يعيد نفسه بكليته؛ فإيران ليست ليبيا، ولا العراق، ولا حتى كوريا الشمالية، لكنها تواجه الغرب بالأدوات ذاتها: القوة، والحصار، والصبر الطويل.

ويبقى السؤال المفتوح: أيملك العرب الشجاعة لطرح بديل حقيقي يكسر هذه المعادلات، أم سنبقى مجرد متفرجين على صراع يتحدد على أرضنا ويمس مستقبلنا؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان