يبدأ النقاء بقرار واع بالابتعاد عن كل ما يشوه صفاء القلب؛ فهو فعل استباقي يقي الإنسان من الوقوع في أسر الطمع أو شهوة عابرة أو تضخم الذات.
إنه كقرار يوسف، عليه السلام، حين آثر السجن على فتنة الجسد، فما كانت عفته ضعفا بل انتصارا روحيا، وكذلك زهد موسى، عليه السلام، في مجد قصور فرعون، تاركا وراءه عرشا موعودا ليختار طريق النبوة الشاقة. هذه المواقف تجسد صدق الروح حين تختار صفاءها على بهارج الدنيا.
واليوم، يتجلى هذا النأي في التوقف عن تصفح الشاشات بلا هدف، والتحرر من المقارنات المرهقة، ومقاومة الحاجة المستمرة للظهور في فضاءات التواصل، والغرق الأعمى في منتديات لا تقدم نفعا حقيقيا.
فهذه الأمور وأشباهها غيوم خفية تتسلل إلى القلب فتبهت بريقه دون أن نشعر.
الصاحب يسحب صاحبه إلى ربوعه، فـ"حامل المسك ونافخ الكير" حقيقة لا غبار عليها؛ فلماذا لا تنتخب من يعطر روحك قبل ثيابك؟ ولمَ لا تبتعد عمن يحرق روحك قبل ملابسك؟
التغذية الروحية
الروح النقية كالبذرة؛ لا يكفي أن تبعدها عن الشوك، بل تحتاج إلى غذاء ينميها.
فالذكر ينعش القلب من غبار الانشغال، والصلاة تنير الطريق من عتمة الحيرة، والتأمل يفتح الأفق على رحابة المعنى، والقراءة المتعمقة للقرآن مع طلب المعرفة الهادفة توسع المدارك وتحمي العقل من سطحية الأفكار.
بهذه العناصر يبقى النقاء حيا متجددا، لا يذبل مع الزمن، بل يزداد عمقا وجمالا مع مرور الأيام.
الصحبة الصالحة
المرء مرآة خليله، والقلب يتشكل بروح من يجالسه؛ فالصحبة الملوثة تشوه السلوك وتبهت النقاء دون أن يدرك المرء ذلك.
أما الرفقة الطيبة فهي درع واقٍ، تحمي من عدوى الطمع والغرور والنزاعات العقيمة، وتوفر بيئة خصبة لنمو الخير.
الصاحب يسحب صاحبه إلى ربوعه، فـ"حامل المسك ونافخ الكير" حقيقة لا غبار عليها؛ فلماذا لا تنتخب من يعطر روحك قبل ثيابك؟ ولمَ لا تبتعد عمن يحرق روحك قبل ملابسك؟
هكذا كان العارفون؛ يفر الصوفي من شهرة الكرامات، ويستتر الحكيم عن أعين الناس كي لا يتسخ قلبه بإعجاب الخلق، ويبتعد العاقل عن الجدال العقيم، لأن الجدل يلوث النقاء الذي يتنفسه القلب
الامتحان الحقيقي للنقاء
النقاء الحقيقي لا يقاس في العزلة، بل يختبر في الميدان. إنه لا يثبت صدقه بالابتعاد عن المغريات، بل بالقدرة على مواجهتها دون أن يتأثر القلب. من يحافظ على روحه نقية بين المال والسلطة والجاه يظهر صدقه وقوة اختياره. فالنقاء لا يقاس بالعزلة، بل بقدرة الروح على البقاء صافية وسط الزحام.
هكذا كان العارفون؛ يفر الصوفي من شهرة الكرامات، ويستتر الحكيم عن أعين الناس كي لا يتسخ قلبه بإعجاب الخلق، ويبتعد العاقل عن الجدال العقيم، لأن الجدل يلوث النقاء الذي يتنفسه القلب.
أمثلة ذلك كثيرة:
- عرضت على النبي محمد ﷺ خزائن الأرض فآثر الكفاف ليبقى قلبه حرا من أسر الذهب والفضة.
- وزهد علي، رضي الله عنه، في الخلافة حين رأى أن الدخول إليها في لحظة الفتنة قد يفسد على الأمة صفاء الدين.
- وجال عيسى، عليه السلام، على القدمين بلا عرش ولا جند، لأن الملك الحقيقي في طهارة الروح لا في عروش الملوك.
- اليوم، يظهر النقاء في موظف يرفض رشوة مغرية، أو مسؤول يتنازل عن شهرة إعلامية ليصون قلبه من الزهو.
النقاء امتحان مستمر، لا ينجح فيه إلا من واجه البريق ولم يسلم قلبه له.
التواضع ليس انكسارا، بل وعيا بأن القيمة لا تكمن في المظاهر الرقمية، بل في الأثر الذي يتركه الإنسان في قلب قريب، أو في خدمة صامتة لا يراها أحد
الوعي بالزمن
النقاء لا ينفصل عن وعي الإنسان بقيمة وقته؛ فالوقت هو العمر ذاته، وإهداره في التسكع الرقمي أو الغرق في دوامة الأخبار يرهق الروح.
أما حين يتحول الزمن إلى مشروع حياة هادف، فإن أبسط اللحظات- كجلسة مع العائلة، أو قراءة نافعة، أو عمل صغير يخدم الآخرين- تصبح طاقة تجدد الروح وتغرس في القلب شعورا بالمعنى والبركة.
التواضع كدرع للنقاء
في زمن تضخمت فيه الصور على الشاشات، وصار الناس يقيمون أنفسهم بعدد المتابعين، يغدو التواضع حصن الروح. فالتواضع ليس انكسارا، بل وعيا بأن القيمة لا تكمن في المظاهر الرقمية، بل في الأثر الذي يتركه الإنسان في قلب قريب، أو في خدمة صامتة لا يراها أحد.
بهذا الدرع يبقى القلب نقيا، لا يتلوث ببريق زائف ولا بشهرة عابرة.
إن هذه النماذج، من الماضي والحاضر، تشهد أن النقاء ليس ضعفا ولا عزلة، بل صمود الروح وقوة القرار. إنه سياج منيع يحيط بأرواحنا ليحفظها نقية وسط زحام الدنيا.
رحلة النقاء ليست محطة وصول، بل هي مسيرة يومية من اليقظة والانتباه، وقرار متجدد في كل صباح بأن تحرس بوابات قلبك. فالنقاء ليس ضعفا، بل قوة ناعمة، تصنع أثرها في صمت، وتترك وراءها بصمة لا تمحى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

