هل الأقليات السورية ضحايا النظام أم شركاؤه؟

الكاتب: برزت أصوات عاقلة تؤكد أن العدالة الحقيقية لا تقوم على الثأر الجماعي، بل على المحاسبة الفردية وضمان عدم تكرار الانتهاكات (وكالة الأناضول)

لطالما كان ملف الأقليات في سوريا من أكثر الملفات حساسية وتعقيدا، إذ استخدمه النظام والمعارضون على حد سواء لتوجيه رسائل سياسية، سواء عبر الاتهام الجماعي، أو عبر الترويج للصورة الزائفة عن الولاء للنظام.

في هذا السياق، يُعمم على الأقليات أنهم جميعا شركاء في حكم استبدادي أو مستفيدون منه، بينما الواقع يكشف صورة أكثر تعقيدا.

بين الضحايا والنخب الحاكمة، وبين القمع والامتياز، ترسم الأقليات السورية لوحة مزدوجة تعكس صراعا طويلا بين سلطة النظام وهوية المجتمع، وتكشف عن اختلافات كبيرة داخل كل طائفة وأقلية.

السؤال المحوري الذي يطرح نفسه، هو: هل حكمت الأقليات سوريا فعلا، أم كانت رهينة تُستخدم كدرع بشري لحماية النظام؟

لفهم ذلك، لا بد من النظر في سياسات النظام، وطبيعة الهيمنة داخل الطوائف، وخطاب المعارضة، ثم في كيفية استغلال الثورة السورية كفرصة لإعادة تأسيس الدولة على أسس عادلة.

الأقليات الأخرى، مثل المسيحيين والدروز والإسماعيليين، كان حضورها في مؤسسات الدولة يبدو وكأنه يعكس تعددية سياسية، لكنه في الحقيقة كان أداة لتجميل صورة النظام داخليا وخارجيا، وإظهار "تعددية" شكلية تخفي واقعا قمعيا

النظام واستغلال الهويات الطائفية

منذ انقلاب 1970، أسس حافظ الأسد حكمه على ما يمكن وصفه بـ"العلونة السياسية"، أي حصر مفاصل السلطة الأمنية والعسكرية في يد دائرة ضيقة من أبناء الطائفة العلوية، مع إبقاء غالبية المجتمع خارج دائرة القرار. لم تتحول هذه السيطرة إلى هيمنة اجتماعية شاملة، بل بقيت مراكز النفوذ مقتصرة على نخبة محدودة تستفيد من امتيازات واسعة.

أما الأقليات الأخرى، مثل المسيحيين والدروز والإسماعيليين، فكان حضورها في مؤسسات الدولة يبدو وكأنه يعكس تعددية سياسية، لكنه في الحقيقة كان أداة لتجميل صورة النظام داخليا وخارجيا، وإظهار "تعددية" شكلية تخفي واقعا قمعيا.

وقد شكلت هذه السياسة امتدادا لنهج "فرق تسد"، حيث يُستثمر التنوع المجتمعي لبناء شرعية وهمية، مع إبقاء كل طائفة تحت السيطرة السياسية والأمنية.

على سبيل المثال، في العهد الأسدي كان يُسمح لعدد محدود من المسيحيين بتولي مناصب عليا في الدولة، لكن أي محاولة للمطالبة بحقوق سياسية أو اقتصادية للأغلبية كانت تواجه بالقمع. ما يدل على أن التمثيل الرسمي لم يكن انعكاسا للقوة الحقيقية أو النفوذ المجتمعي، بل مجرد واجهة شكلية.

السياسات الطائفية للنظام لم تؤسس فقط للهيمنة، بل عمقت الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، وأوجدت شعورا دائما بالتهديد لدى أفراد الأقليات، مما دفع بعضهم للتحفظ أو التحالف مع النظام بدافع البقاء، لا الولاء الأيديولوجي

الفئوية داخل الطائفة والمجتمع

داخل الطائفة العلوية نفسها، برزت طبقة صغيرة مرتبطة مباشرة بالأجهزة الأمنية والعسكرية، واستحوذت على النفوذ والثروة. هذه الطبقة شكلت قلب النظام الحاكم، بينما عاش أغلب أبناء الطائفة في مناطق مهمشة اقتصاديا، وتعرضوا للقمع إذا خالفوا السلطة أو خرجوا عن دائرة الطاعة.

إعلان

وحالة عبدالعزيز الخير، أحد المعارضين العلويين الذين قضوا سنوات في السجون، مثال واضح على أن الانتماء الطائفي لم يكن ضمانا للأمان أو الامتياز.

المعادلة نفسها تكررت بين أقليات أخرى، حيث استُخدمت النخب كواجهة، بينما بقي معظم السكان في الظل. ففي مدينة السويداء مثلا، ظل معظم الدروز خارج دائرة القرار الفعلي، وتعرضوا لعقوبات اقتصادية وأمنية حين طالبوا بحقوقهم أو حاولوا تحريك قضاياهم المجتمعية.

السياسات الطائفية للنظام لم تؤسس فقط للهيمنة، بل عمقت الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، وأوجدت شعورا دائما بالتهديد لدى أفراد الأقليات، مما دفع بعضهم للتحفظ أو التحالف مع النظام بدافع البقاء، لا الولاء الأيديولوجي.

تجارب دول أخرى مثل جنوب أفريقيا ورواندا تؤكد أن المحاسبة الفردية والحقيقة الشفافة هما السبيل الأفضل لبناء مصالحة حقيقية، دون تحميل جماعات كاملة مسؤولية أفعال أفرادها

المعارضة والعدالة الانتقالية

مع انطلاق الثورة السورية 2011، برز تباين واضح في خطاب المعارضة؛ فقد كان هناك تيار مدني دعا إلى المحاسبة الفردية للمسؤولين عن الجرائم، بعيدا عن الانتماء الطائفي أو الولاء للنظام.

هذا التيار ركز على العدالة والشفافية وكشف الحقائق، مؤكدا أن الطائفة أو الأقلية ليست مسؤولة عن أفعال الأفراد داخل النظام.

في المقابل، ظهر تيار آخر تغلب عليه نزعة الغضب والانتقام الطائفي، ما عمق الانقسامات وزاد من شعور الأقليات بالتهديد، خاصة العلويين والدروز. هذا الخطاب أسهم في تعزيز الانقسامات، لكنه لم يكن الصوت الوحيد في الثورة.

ورغم ذلك، برزت أصوات عاقلة تؤكد أن العدالة الحقيقية لا تقوم على الثأر الجماعي، بل على المحاسبة الفردية وضمان عدم تكرار الانتهاكات.

ومن الأمثلة الدالة موقف بعض القادة الميدانيين بعد تحرير أحياء دمشق، حين قالوا لأسرى النظام: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، مشددين على أن الثورة ليست حربا بين الطوائف، بل ثورة شعب ضد الاستبداد.

وتجارب دول أخرى مثل جنوب أفريقيا ورواندا تؤكد أن المحاسبة الفردية والحقيقة الشفافة هما السبيل الأفضل لبناء مصالحة حقيقية، دون تحميل جماعات كاملة مسؤولية أفعال أفرادها.

وقد ركزت العدالة الانتقالية في مثل هذه الدول على الأفراد مع مراعاة التوازن الاجتماعي والسياسي، وهو ما يمكن أن يشكل نموذجا للسوريين في المرحلة المقبلة.

الأقليات في سوريا لم تكن كتلة واحدة تحكم أو تتآمر، بل فسيفساء من الأفراد، بينهم الجلاد والضحية، عاشوا تحت ضغط مستمر من النظام. والنظام الذي سقط في 2024 لم يسقط لأنه فقد حلفاءه من الأقليات، بل لأنه فقد شرعيته أمام الشعب بأسره

سقوط النظام وفرصة لإعادة البناء

مثلت معركة "ردع العدوان" في ديسمبر/كانون الأول 2024 منعطفا حاسما في تاريخ سوريا الحديث.. انهار النظام الذي حكم البلاد منذ انقلاب 1963، وانتهت ستة عقود من القمع الممنهج. ومع ذلك، كان سقوط رأس النظام خطوة واحدة فقط؛ فالبنية المؤسسية للدولة كانت قد تفككت، والثقة بين المكونات تآكلت، والشرخ الاجتماعي اتسع.

إعادة بناء سوريا تتطلب أكثر من مجرد تغيير شخص في رأس السلطة؛ فالدولة التي مزقها الاستبداد لا يمكن إصلاحها بالأدوات القديمة، بل يجب إعادة تأسيسها على قواعد جديدة، تشمل تحييد الدولة عن العصبيات، وفتح ملفات العدالة الانتقالية بشفافية ومسؤولية، بعيدا عن الانتقام أو التعميم.

كما يجب ضمان الحقوق الدستورية لجميع السوريين -بمن فيهم الأقليات- ثقافيا ودينيا، وفصل السلطات لضمان استقلال القضاء والجيش والأمن والإعلام، بحيث تتحول هذه المؤسسات إلى أجهزة وطنية حقيقية، لا أدوات في يد الحاكم.

إعلان

وبناء ثقافة سياسية جديدة، قائمة على النقد والمساءلة لا على تبجيل الزعيم الفرد، هو شرط أساسي لتأسيس دولة عادلة ومستقرة.

الأقليات في سوريا لم تكن كتلة واحدة تحكم أو تتآمر، بل فسيفساء من الأفراد، بينهم الجلاد والضحية، عاشوا تحت ضغط مستمر من النظام. والنظام الذي سقط في 2024 لم يسقط لأنه فقد حلفاءه من الأقليات، بل لأنه فقد شرعيته أمام الشعب بأسره.

اليوم، أمام السوريين فرصة تاريخية لصياغة عقد وطني يجعل المواطنة هي الأساس، ويطوي صفحة الاستغلال الطائفي إلى الأبد.. الطريق إلى سوريا الجديدة يبدأ حين لا يكون أحد فوق الدولة ولا أحد خارجها، وعندها يمكن لكل مكون أن يشعر بأنه جزء من مشروع وطني حقيقي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان